شلة اصحاب على النت

دماء وأحلام في بلاد الشام __online

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شلة اصحاب على النت

دماء وأحلام في بلاد الشام __online

شلة اصحاب على النت

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

Bookmark


الاعلان فى المنتدى مفتوح مجانا امام كل صديق  معنا بمنتدى الشلة
عليه فقط الضغط هنا وكتابة رسالة بطلب الاعلان
سمى الله واضغط هنا واكتب رسالتك

http://up.progs4arab.com/uploads/de0bdf66b3.jpg
http://up.progs4arab.com/uploads/00fa7905f7.jpg


دماء وأحلام في بلاد الشام Bestlearn110

دماء وأحلام في بلاد الشام Banner3


دماء وأحلام في بلاد الشام 10010
اول موقع مصري عربي لتحميلات و شرح برامج و بوتات سرفرات Xmpp/Jabber باللغه الأنجليزيه لمنافسه المرمجين الروسين و الايرانين و الاندونيسين بلغتهم
او اللغه الثانيه في كل انحاء العالم ارجو منكم الزياره و الدعم.... بواسطه: محمد جمال 201225516116+



3 مشترك

    دماء وأحلام في بلاد الشام

    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية الجمعة يوليو 16, 2010 10:11 pm

    أرجو من أعضاء الشلة الذين لهم معلومات حول المناطق التي ذكرة في الرواية أن يساعدونا

    من أجل الاستمتاع أكثر بالرواية

    http://www.awu-dam.org/book/05/novel05/408-n-h/408-n-h.zip


    عدل سابقا من قبل الجزائرية في الثلاثاء أغسطس 31, 2010 4:13 pm عدل 1 مرات
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية الجمعة يوليو 16, 2010 10:13 pm




    خرجت
    حتى نفيسة مع نساء سوقساروجا لتحتفل بيوم الجلاء. قالت لنرجس عندما لاحظت ازدحام
    طريق الصالحية بالناس: "جدي لعب بعقل تيس"! سألتها نرجس: "الله
    يسامحك يانفيسة خانم، أنا الجدي؟ فردت نفيسة ساخرة: لا، تقبريني، أنا التيس!



    كأنما كانت المدينة كلها تمشي إلى الملعب البلدي! وصل
    الناس من غوطة دمشق ومن حمص وحلب إلى دمشق ليحضروا الاحتفال. استسلمت نفيسة للشعور
    بعيد يحتفي به الصغير والكبير. ركبت مع النساء الترام في مقطع من الطريق، من بوابة
    الصالحية إلى جسر فيكتوريا. وامتلأت العربة فصعب على الكمساري المرور فتناول ثمن التذاكر
    فوق رؤوس الركاب. ولم يدفعوا عن الأولاد. نزلت النساء من الترامواي ومشين إلى طريق
    الربوة وسط جمع تحرك في اتجاه واحد: مرجة الحشيش. واستقر الأولاد والصبيان على الأشجار
    كعناقيد العنب. كم بدت المدينة واسعة لليلى! وصلت إلى أمكنة لاتعرفها ولايمكن أن تصل
    إليها وحدها. تفرجت على الأشجار الباسقة في طريق بيروت، على بردى الممتلئ بالماء إلى
    حافتيه، على الأولاد الذين تسلقوا الأشجار. وصلت إلى الملعب البلدي. وعندما وقفت
    قرب أمها شعرت بأنها بين قامات أعلى منها. فرفعتها منور لتتفرج على الخيالة الذين يؤدون
    الاستعراض بملابسهم الشركسية. رأتهم يقفون على الخيل، ثم ينزلقون تحت بطنها، يمتطي
    أحدهم حصانين معا، ثم يقترب خيّالان ويصعد ثالث فوق أكتافهما والخيل تعدو مسرعة.



    راقبت
    نفيسة دهشة ليلى واستمتعت بها. هل ستحفظ هذه الطفلة في ذاكرتها هذا الاحتفال
    بالجلاء؟ لو تدرين ياليلى كم كلفنا الجلاء! كلفنا فقد المحبين! خيل لنفيسة أنها
    ستروي ذات يوم لليلى كيف أحبت خالد آغا وكيف فقدته في ميسلون. وأنها سترسم لها
    عشقا لم يجسر أحدهما على البوح به. وأنها ستحدثها عن الموت الذي لم يكن يليق بخالد
    آغا في أي مكان دون ميسلون. ستحدثها عن ذلك عندما يبرد القلب! لكن نفيسة لن تكون
    أبدا قادرة على لمس التفاصيل لأن السنوات ستجعلها أكثر وضوحا ودقة. لذلك ستمدّ
    ليلى بخيالها الموجزات التي سترمي أطرافها نفيسة. وسيجعل مزيج الحقيقة والتخمين
    مكانة خاصة لنفيسة تجذب ليلى إلى مدارها.



    في
    الطريق إلى البيت لم تتحدث نفيسة لمن حولها من نساء سوقساروجا عن وجع قلبها، بل عن
    اليوم الذي خرج فيه أهل دمشق إلى مرجة الحشيش ليتفرجوا على الطائرة العثمانية والطيارين
    اللذين احتفت بهما بيروت، ثم سقطا في طبرية ودفنا في حديقة ضريح صلاح الدين الأيوبي.
    فذكّرا بحكاية عباس بن فرناس. لكن منور سلّمت ليلى لمرجانة وانصرفت إلى دموعها على
    أخيها سعيد! هدّأتها نرجس: عيب يامنور خانم، البكاء على الشهيد عيب! لولا الشهداء
    أكنا نحتفل بهذا اليوم! هدّأتها ومسحت هي نفسها دموعها في السر عن منور، وتذكرت
    اليوم الذي رافقت فيه نفيسة خانم إلى المرجة ورأت فيه سعيدا بين الشهداء المعروضين
    في الساحة مغطى بالزهور التي نثرها عليه الناس. سمعت ليلى مزيجا من أصوات النساء،
    ولمحت من وراء كتف مرجانة دموع منور ونرجس. هل تدري أنها ستقف ذات يوم في مرجة الحشيش
    نفسها قرب أشجار الكينا مستمعة إلى الجواهري وهو يؤبن عدنان المالكي الذي سيقتل هناك،
    وأنها ستتدرب فيها على السلاح مع زميلاتها في المقاومة الشعبية! قالت نرجس: هكذا
    الدنيا يامنور خانم، يأتي البشر ويرحلون والبلاد باقية تستقبل وتودع!



    انشغلت
    نفيسة ومنور ونرجس بغداء يناسب عيد الجلاء. قدمت مرجانة رقبات الغنم المحشوة
    باللوز والصنوبر والرز واللحم، ومايناسبها من الخضار المطبوخة بالزيت. وشربن
    القهوة. افترقن طوال المساء. وخرجن في الليل ليتفرجن على الكشافة الذين حملوا
    المشاعل ومشوا على ايقاع الأبواق والطبول. تفرجت ليلى عليهم. كانوا يلبسون سروالات
    قصيرة ويطوقون أعناقهم بمناديل نيلية صغيرة، يتقدمهم قارعو الطبول المزينة
    بالشرائط.



    وصلت
    النساء بعد الفرجة على الكشافة إلى آخر قاسيون. مررن بين الصخور ليشرفن على ساحة ممهدة.
    مدّ الناس البسط والحصر وجلسوا. ومثّل الكشاف مسرحية في الأسفل على ضوء المشاعل والفوانيس.
    كان الفتيان في ملابس فتيات وحاولوا أن يغيروا أصواتهم فضحك المتفرجون. وضخّم بعض الفتيان
    أصواتهم فبدا ذلك أيضا مضحكا. وقتذاك وقع ولد من المتفرجين، وتدحرج حتى الأسفل فهبّ
    رجال ليسعفوه ومعهم الممثلون فانقطعت المسرحية. قالت منور: أمس في العرض العسكري جنحت
    دبابة وقتلت بعض الناس! والتفتت إلى ليلى المحبوسة بينها وبين مرجانة: لاتتحركي من
    مكانك! هدأت الضجة واستمرت المسرحية. ثم صعد قمر ساطع، بدر، أضاء السماء والجبل. بدأت
    المشاعل تخبو في ضوئه في الساحة الصغيرة الممهدة، وظهر المتفرجون واضحين.



    في
    تلك الأيام قالت نفيسة لمنور: ضعي ليلى في روضة الأطفال في مدرسة الأميركان.
    قريبة، والبيت نعرفه! بيت العابد الذي يلعب الخيّال في باحته! تحتاج ليلى رفيقات
    في عمرها!



    لبست
    ليلى صدرية سماوية مخططة بالأبيض وجلست في مقعد ووضعت يديها خلف ظهرها. وفي صدر
    الصف عُرض دبّ هادئ سيكون في آخر الأسبوع جائزة "للعاقل". راقبتها منور من
    سطح مكرم خانم ورأتها تحمل محفظتها الصغيرة في الفرصة فضحكت. لاتعرف أنها يجب أن
    تتركها في الصف!



    رفعتها
    في ذلك اليوم وأجلستها على مكتب بهاء وسألتها: ماذا تعلمتِ؟ قالت: أن أضع يدي وراء
    ظهري إذا أردت أن يكون لي الدب! ضمتها منور إلى صدرها! وذهبت إلى مخزن الزين في
    سوق الحميدية واشترت دبا كبيرا حول رقبته شريطة خضراء. ووضعته على الكرسي الذي كان
    يجلس عليه بهاء قرب المكتب. وفكرت في اليدين المعقودتين خلف الظهر. تقيد يدا
    الإنسان السجين، تقطع يد السارق، تغلّ اليد وتمنع من الحركة. واليد هي التي عمرت
    المدن، وزخرفت الأموي بالفسيفساء، ورصفت الطرقات، وكتبت المخطوطات، وهي التي زرعت
    الشجر وقطفت الثمار، ومدّت مربى المشمش في الصواني على السطوح المغمورة بالشمس،
    وعلّقت عقود الملْبن! قدمت منور لليلى ورق العنب المحشو بالرز واللحم، وقالت لها
    لففته بيدي! وأطعمتها الرز بالحليب المعطر بماء الزهر وقالت لها: طبخته بيدي! ثم
    أعطتها الدبّ الكبير وقالت لها: عمله الناس للأولاد. عملوه بأيديهم في بلد لانعرفه
    اسمه برلين! عانقت ليلى الدبّ وتركت كفها الأخرى لمنور ففتحتها وتفرجت على أصابعها
    الصغيرة الطرية: ياليلى، ماذا ستفعلين بهذه اليد الحلوة عندما تكبرين؟ قالت ليلى
    ماستردده في فتوتها أيضا: سأداوي الناس! ماأهم يد الإنسان إذن! وستتذكر ليلى كلمات
    منور عن يد الإنسان وهي تداوي الجرحى في حرب تشرين. وستزيّن أصابعها بالخواتم
    الجميلة كمن يؤدي واجب احترام أصابع الإنسان. ولن تخلع خواتمها إلا في غرفة العمليات.
    بقيت ليلى في مدرسة الأميركان حتى روت لمنور أن رفيقتها ركعت في زاوية الغرفة
    ورفعت يديها فوق رأسها لأنها تكلمت في الصف. قالت لنفيسة: كفى! هذه ليست مدرسة!
    هذا سجن!



    أفرح
    منور، فيما بعد، أن المدرسة الابتدائية كانت في بيت عربي واسع، وأن ليلى عادت منها
    راضية. روت لمنور أن تلميذات المدرسة الابتدائية وقفن صفوفا بين أشجار اليوسف أفندي
    والبرتقال والأكدنيا في أرض الدار. وأن المديرة خرجت إلى الفسحة التي ترتفع درجات،
    ورفعت بيدها الكمان وأسندته إلى ذقنها. تفرجت ليلى على الخاتم الألماس الذي يلمع في
    إصبع المديرة، وإلى وجهها النضر الممتلئ، وثيابها الأنيقة. لمست المديرة الكمان
    بالقوس، وضربت الأوتار ضربات قوية ثم بدأت العزف، وبدأت التلميذات ينشدن النشيد السوري،
    وارتفع العلم على السارية أمام نوافذ الطابق العلوي. أطلت النساء من سطوح الجيران على
    المديرة والفتيات. ورفعت ليلى نظرها إليهن في حذر. "خلال النشيد يجب ألا نتحرك"!
    بعد النشيد أعلنت المديرة: كن مرتبات غدا! شرائط الرأس بيضاء مكوية، الجوارب القصيرة
    بيضاء نظيفة، الصداري مكوية، القبات بيضاء مكوية أو من المشمّع الأبيض النظيف! ثم استدارت
    إلى غرفتها المطلة على الباحة. وصعدت التلميذات إلى صفوفهن.



    في
    الصف تلميذتان في كل مقعد. والمقعد جديد، حفر في مقدمته مكان للدواة. واللوح الأسود
    جديد. الصف مضاء بنافذتين تطلان على الباحة تلمسهما أشجار النارنج. لدى بعض الطالبات
    "ستيلو"، لكن المعلمة لاتسمح لهن باستعماله حرصا على جمال الخط. "اكتبن
    بالريشة"! غمست الفتيات الريشة في الدواة وكتبن. ولوّن الحبر أصابعهن. "اجلسن
    مستقيمات الظهر"! تحدثت المعلمة عن العمود الفقري الذي يعوجّ إذا أساء الإنسان
    جلسته. "في ظهر الإنسان شكله وأخلاقه"! استمعت التلميذات في احترام إلى المعلمة.
    يعرفن أن قريبها حكم بالإعدام في أيام الاحتلال! شابة شقراء بيضاء بيتها قريب من المدرسة.
    سترفع ليلى نظرها إلى بيت المعلمة كلما مرت به وستتوهم أن المعلمة تراها من النافذة
    فتشد ظهرها وتضبط مشيتها.



    تصفحت
    ليلى الكتب المدرسية في تهيب وفرح. فيها صور فتيات وفتيان وأشجار. ورق أبيض عليه كتابة
    بحروف كبيرة وبحروف عادية. أي سحر! هل ستنهي الكتاب كله حتى نهاية السنة! لكن المعلمة
    تحدثت لتلميذاتها عما يتجاوز الكتب. حكت لهن عن الاحتلال والاستقلال، عن العِلم
    والدراسة وقراءة الكتب، وعلمتهن نشيدا.. "حققوا آمال غازي، وحدة تحيي الأمل.."
    من هو غازي؟ من فيصل؟ الدولة العربية.. "طلبت المديرة منكن أن تكن مرتبات غدا
    لأن رئيس الجمهورية سيمر أمام المدرسة وسيقف ليراكن. العِلم أساس بلادنا المستقلة!
    لذلك يجب أن تدرسن وتتفوقن! العلِم شرف.. لكن وللوطن"!



    تأملت
    منور صخب ابنتها: سيتوقف رئيس الجمهورية أمام مدرستنا ليرانا! القبة.. الصدرية.. الجوارب..!
    قالت منور: لو يجعل الدفاتر رخيصة بدلا من زيارتكن! آه، هل هذا وقت الانتقادات؟ استمعت
    منور إلى حديث الجارات عن احتكار السمن والزيت. "أكل التجار البلد! ماذا يهمنا
    إذا كانوا سوريين أم غير سوريين؟ لاضمير لهم، لايبالون بأهل بلدهم! هذا ماانتظره الناس
    من الاستقلال؟ في الحرب احتكر التجار قوت الناس، وبعد الحرب لم يتبدل الوضع"!
    الحق مع سلامة الأغواني الذي غنى "يابو درويش خبّرني كيف بدنا نعيش"..!


    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية الجمعة يوليو 16, 2010 10:20 pm


    وضعت
    ليلى أمامها لوحة من الكرتون فيها صور سمك متنوع الأشكال كُتبت أسماؤها بالفرنسية وبدأت
    ترسم مثلها، مبتهجة بعلبة الألوان الجديدة، وبأنها ترسم للصف مثيل لوحة الكرتون المطبوعة
    في فرنسا. سيمر غدا رئيس الجمهورية! وستكون ليلى غدا مرتبة!


    صُفّت
    التلميذات على جانبي الطريق. وانشغلت المعلمات في تفقدهن مرات. أعدن إلى الصواب القبة
    البيضاء التي طاشت من مكانها، لمسن شرائط الرأس ونشرنها لتكون كالفراشات. وضعن في الصف
    الأمامي البنات الجميلات والغنيات. لمست ليلى شريطتها الاورغانزا. وهاهو رئيس الجمهورية!
    مشى بين التلميذات. سلم على المعلمات وعلى المديرة. سلم على التلميذات الواقفات في
    الصف الأمامي. نظرت إليه ليلى وهي تمدّ له يدها. لايختلف عن أي رجل رأته. قالت
    منور ضاحكة: "ظننا الباشا باشا، طلع الباشا زلمة".


    في
    ذلك اليوم أعلنت المعلمة: "ستعلّمكن المديرة الوضوء والصلاة"! والتفتت إلى
    ناجية المسيحية: "ناجية يابنات من أهل الكتاب. مثلنا لكنها تصلي بشكل آخر! لذلك
    ستبقى معي".


    كم
    بدت أرض الدار واسعة لتلميذات صفّ فيه عشرون فتاة! مشت التلميذات بين الأشجار حتى وصلت
    المديرة فتحلقن حولها. استمعن إليها. ثم تفرقن على صفّ من الحنفيات في طرف أرض الدار،
    يشربن منها وقت الفرص. وقفت المديرة بينهن وبدأ الوضوء تحت السماء. بعد الوضوء وقفت
    البنات على الحصر التي فرشت بين الأشجار. وأمّتهن المديرة التي وضعت على شعرها إشاربا
    وبقيت ظاهرة الساقين، جاهرة بصوتها، وردّدن خلفها آيات الصلاة. زقزق عصفور على شجرة
    السرو، وهسّت أوراق شجرة اليوسف أفندي الكبيرة. رفعت ليلى نظرها إلى الأشجار وإلى السماء
    الزرقاء، الزرقاء. رددت ماتقوله المديرة. وغمرها الفرح بما حولها. قالت المديرة بعد
    الصلاة: "جهرنا بالآيات كي نتعلم الصلاة. لكن يفترض أن نتلوها في السر".
    صعدت إلى مكتبها وبقيت الفتيات في الباحة سعيدات بالفسحة الواسعة والأشجار. وأقبلت
    معلمتهن مع ناجية ووضعت سبابتها على فمها: هسّ! لاتزعجن بأصواتكن الصفوف الأخرى! صمتن
    وتجولن في الباحة هامسات حتى خرجت المديرة وهزّت بيدها الجرس الأبيض ذا القبضة السوداء.
    هرعت ليلى إليها فناولتها المديرة الجرس، أخذته وهزّته بسرعة وقوة فابتسمت المديرة:
    كفى! سمعتنا الحارة كلها!


    في
    اللحظة التي هزّت فيها ليلى الجرس لمعت للمديرة فكرة: ليلى مناسبة لتكون بطلة في التمثيلية
    عن الجلاء! نادتها إلى غرفة المعلمات: ليلى، احفظي هذه المقاطع! ستبقين بعد الانصراف
    ابتداء من الغد. خبري أمك. سنتدرب على التمثيلية كل يوم. أعطيت ليلى دور فرنسية تحتقر
    السوريين وتناديهم "سال سيريان". وأعطيت، دور سورية التي تحررت من الانتداب!
    وأدت الدورين وهي تنشر ذراعيها مع الكلمات، كما سينشر التلاميذ دائما أذرعهم فيما بعد.
    دارت في البيت وهي تكرر: "يالعزي وفخاري، يالبهجتي وحبوري، يداي طليقتان وقد أنهكتهما
    القيود والأغلال، ملكت البشرى علي مشاعري، نفسي مهتاجة طروب، بهذه الأعلام الخفاقة
    والأنوار المتلألئة". قاطعتها منور مداعبة: أنا حفظت الدور! في التمثيلية الثالثة
    مثلت ليلى دور الزنبقة التي تتبارى مع بقية الأزهار. واستمعت منور إليها تردد:
    "أنا الزنبق زهري مطبّق، قلبي أبيض صافي وريّان"! فقالت لنفيسة: لاتجيد
    ليلى الكتابة بعدُ، ومع ذلك تحفظ بالفصحى كلمات ثقيلة!


    حفظت
    ليلى الكلمات بصما، تماما كما حفظت مرة قصيدة عن قلم الرصاص. لكن الممتع كان الحركة،
    صفّ الكراسي، البقاء بعد الانصراف، القرب من المعلمات، الوقوف على منصة تشرف على الباحة
    ذات الأشجار، الناس، والمعلمات الواقفات في طرف المنصة جاهزات لمساعدة التلميذات الممثلات.
    لبست ليلى بلوزة بيضاء على صدرها نجوم حمراء مكان الأزرار، وتنورة سوداء، وشريطة خضراء.
    هذه هي "سورية المستقلة"! وألقت كلماتها، وعندما صفق لها الناس بحثت بعينيها
    عن أمها. هرعت إليها المعلمة وقبّلتها. في الصف الأمامي من القاعة صفّت أرائك للوجهاء
    كما ستصفّ فيما بعد طوال عقود في الحفلات. وخلفها صفت الكراسي الخيزران للناس.
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية الجمعة يوليو 16, 2010 10:21 pm


    تكررت
    الاحتفالات بعيد الجلاء فيما بعد. لكن أين الأفراح بعد احتلال فلسطين؟! كأنما
    صحونا من الحلم بأن الدنيا ستتغير! اشتركت ليلى مرة فقط في تمثيلية في المدرسة.
    وقالت منور لنفسها: ليت بهاء تفرج عليها! بدت حلوة ورائقة. فهل نسيت مقتل أبيها في
    الجليل؟ ونسيت اليوم الذي أتى فيه رجل أوصل لمنور مذكرات بهاء الموشاة بدمه؟ يبدو
    أنها لاتتذكر ذلك. وماأحسن النسيان! فلتنشعل بالمدرسة! المدرسة دنيا واسعة خارج
    البيت، باحة فيها شجر، ومعلمات لطيفات ورفيقات.



    هاهي
    ليلى تمسك بيد رفيقتها سمر في الطريق إلى المدرسة. تؤرجحها وتضحكان. وصفتهما سعاد لمنور:
    مثل عصفورتين لاتعرفان ما في الدنيا من هموم! كانت سعاد على الرصيف الآخر، فتمهلت لتتأملهما.
    ماذا يضحكهما؟ ماذا يسعدهما في هذه الدنيا التي انقلبت فصارت فيها سعاد صاحبة أراضي
    بيسمون، وصاحبة البيت الجميل في عكا، لاجئة؟ هل تعي ليلى التي فقدت أباها في فلسطين
    عذاب أمها التي لاتستطيع أن تزور قبره ولاتعرف المكان الذي دفن فيه في الجليل؟ مايزال
    احتلال فلسطين الذي سماه العرب نكبة، طريا. لم يسلم حتى برنادوت لأنه أوصى بعودة
    الفلسطينيين المهجرين إلى مدنهم وبيوتهم. يعني اغتيال برنادوت أن دولة المستوطنين
    الغرباء الذين سلبوا العرب بلادهم لن تسمح لهم بالعودة إليها! ربما كان يخيل لسعاد
    في تلك الأيام أن الفرح ذنب، وأن الأطفال يجب أن يعرفوا نكبة فلسطين وأن يربيهم
    أهلهم على فهم خطرها. كانت هي المنكوبة ببلدها تزور منور يوميا لتفكر معها بما حدث
    ولتعلن لها العناوين التي عرفتها: فاطمة اليشرطية الآن في بيروت. صدقي الطبري الآن
    في حوران. ابن الخوري، المحامي الكبير، في حماة..


    كانت
    منور قد منعت الحديث عن حزنها واستدارت عن المواساة. هل يمكن أن تطمر امرأة مقتل
    زوجها وابنها؟! انصرفت إلى الأخبار التي تنقلها لها سعاد عن فلسطين. أخبار
    لاتنشرها الجرائد! فما يزال الفلسطينيون يتسللون إلى قراهم سالكين طرقات يعرفون حتى
    حجارتها وأشواكها. يصل بعضهم سليما ويبقى كأنه لم يغادر أرضه، فينقله الإسرائيليون
    إلى قرى أخرى إذا كانت قريته في مشروع قرروه. أو يسقط مقتولا كمتسلل إلى بلاد صارت
    للغرباء القادمين من بولونيا وهنغاريا واوكرايينا وروسيا ورومانيا. كان بعضهم يجد بيته
    منهوبا أو منسوفا. وكان بعضهم يعود ببعض ماطمره إذا سلم في العودة. لم تكن الحدود بعد
    مضبوطة فالدوريات الإسرائيلية لاتستطيع بعد قطع صلة فلسطين بالبلاد العربية. وماذا
    يعني ذلك يامنور؟ يعني أن هذه البلاد لاتزال بلاد الشام، ويصعب اقتطاع فلسطين منها.
    من يستطيع فصل جزء من الروح عن جزئها الآخر؟! تعيش حيفا بقمح حوران، وتأكل دمشق
    البرتقال اليافاوي! فجّرت منور حزنها في الغضب! قالت لأختها: اقتطعوها؟ قولي وهبها
    رؤساء العالم الظالم الذين لايعرفونها للغرباء الذين لايعرفونها! وسامح بها الملوك
    العرب المستوطنين! من سلّم لهم اللد والرملة؟ وسلم لهم أم الرشراش في العقبة التي سيسمونها
    اسما آخر؟ الناس والأرض ضحية الأمم المتحدة وضحية الحكام الخونة!


    كان
    عبد الرحيم ينقل لسعاد التفاصيل فتقول له: يعرف الناس ذلك دون أن تنقله بشكله الرسمي!
    لكنها كانت تستمع إليه وتقول لنفسها: كم تبدو الأمور محبوكة! هنا أبو حنيك. وهناك قرار
    الأمم المتحدة الذي يمنع العرب من الاعتراض على قراره وإلا.. يعرف الجميع أن التقسيم
    وهب الغرباء حقا في أرض ليست لهم ولن يبقوا في حدودها التي أعلنت لهم كدولة يهودية!
    من يجهل أن الهدنة كانت مفصّلة كي يستقدم اليهود السلاح الذي يحتاجونه والمتطوعين الذين
    يحتاجونهم! وأن الهدنة كانت تنتهي وقت يستطيعون احتلال قطعة جديدة من الأراضي الفلسطينية!



    كيف تستطيع ليلى، إذن، الضحك مع رفيقتها كأن
    الدنيا في أمان؟ تابعتهما سعاد وهما تسبقانها على الرصيف الآخر، سريعتين نحيلتين. انتبهت
    سعاد إلى بقية البساتين التي تواكبهما. كانت مزروعة بالأرضي شوكي الذي يبدو قريبا من
    قامتيهما. التفتت إلى البساتين التي تمتد من جهة حتى قاسيون وتتصل من جهة ببساتين
    "وراء الدور" التي كان يملكها خالد آغا، وفي سبيل توزيعها في عدل بين الإخوة
    انتحر ابنه شهاب! وهاهو بهاء، ابنه الآخر، في تراب فلسطين! فهل يستطيع رجال غرباء بقرار
    أو دون قرار أن يدّعوا لأنفسهم هذه الأرض؟ هذه بلاد الشام، لايستطيع أحد أن يقسّمها،
    ومهما طال الزمن والعذاب ستعود متصلة بأهلها العرب ويجب أن يهجّر منها الغرباء كما
    هجّرونا! فلتعترف الدول العربية بما تُلزم به من قرارات دولية، ولتنحن لما يراد لها
    أن تنحني له! لكني أنا سعاد، وهؤلاء الناس، لن نقبل مالايقبله العقل والضمير! عشنا
    في فلسطين، عاش فيها آباؤنا وأجدادنا، فيها قبورنا، فيها بيوتنا وشجرنا، فكيف يقبل
    العقل أن توهب لغرباء نقلتهم إليها السفن؟ كيف يقبل أن يأخذوا بيتي في عكا ويناموا
    على سريري ويقطفوا اللوز من شجرتي المزروعة في حديقتي، ويحتلوا المقعد الذي سهرت عليه
    مع عبد الرحيم؟ ولدت أولادي في بيتي، عبأته بروحي وحزني، بليالي الأرق وليالي الصبر،
    فكيف يقرر غرباء أنه لغرباء قادمين على سفن غريبة؟ لأنهم يهود؟
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية الجمعة يوليو 16, 2010 10:22 pm


    كأن
    سعاد كانت في تلك اللحظة، تفكر بما سيكون موضوع الصراع بين العرب والإسرائيليين طوال
    نصف قرن! وبما سيكون موضوع المفاوضات التي ستبدو الدول فيها مقسمة بين الواقع المفروض،
    وضمائر الشعوب الملتزمة بالحقيقة التي تعرفها: أنها رأت سرقة فلسطين بالقوة من أهلها،
    سرقة أراضيها التي زرعها العرب، وبيوتها التي شيدوها وأثثوها! والذكريات التي حشدوها
    بحياتهم وموتهم!



    انساب
    حنان رقيق في قلبها على الفتاتين. وكأنها انتبهت إلى صلابة في الطفولة تجعلها عصية
    على الانهيار. وتساءلت أهي الجهل بعمق المصائب؟ أم هي النضارة التي لم تتراكم عليها
    طبقات من الأحزان؟ وبدأت تستمتع بخفتهما في المشي، وبسرعتهما وفرحهما!


    وصلت
    بعدهما بزمن. وقصدت أن تتوقف قرب الحديقة المزروعة بالعشب، المسوّرة بنصف دوائر منخفضة
    من القضبان في بوابة الصالحية قرب الفيجة. عندما وصلت إلى بيت منور وجدت أفراح ليلى
    ماتزال طرية. رفعت ليلى الجلاء المدرسي وأقبلت عليها: الثانية، ياخالتي! لذلك أعطوني
    جلاء مطبوعا بأحرف في لون الطاووس! جفلت منور. استعادت البيت الذي أمضت الصيف فيه في
    قدسيا والطاووس الذي أكله الضبع! كمد وجهها وابتعدت: ستبدو كمن يحضّر القهوة لسعاد!
    في المطبخ وضعت يدها على رقبتها واهتزت: الصبر، ياربي! لاتستطيع أن تبتلع ريقها. بدا
    لها أنها تتذكر تفاصيل الأمسيات التي أمضتها مع بهاء في قدسيا. تجلس معه على الشرفة
    فوق النهر مظللة بالشجر، ويتحادثان حتى يأتي النعاس رقيقا وشفافا تصعب مقاومته. كانا
    يتجولان في دنيا واسعة خلال دقائق. وكانا يضحكان دون أن يدريا سبب ضحكهما. وكالأطفال
    يكتمان الضحك كيلا يصل صوتهما إلى ولديهما. ولو سئلا ماالذي كان يفرحهما لكان صعبا
    عليهما الجواب بكلمات. ولاختصرا ذلك بجملة: سعداء لأننا معا!


    قرب
    الفجر كانت منور تنتقل إلى سرير آخر، مخمّنة أن ليلى ستفيق مبكرة وتأتي إلى أبيها فتندس
    إلى جانبه. كانت تراقبها وهي توقظه، تلمس وجهه لكنه لايفتح عينيه بل يشدّها إليه مغمض
    العينين، ويقبّلها مغمض العينين فيضحكها ذلك وتمد أصابعها تحاول أن تفتح جفنيه. يعجبه
    ذلك فيشدهما بقوة حتى تقول له: بابا، قم! وتنهض وهي تسحبه من يده. عندئذ يستعيدها ليعانقها
    فتستكين بين ذراعيه سعيدة ومعتدة بانتصارها. تتأملها منور وتفكر بسحر الحب. يحتاجه
    الأطفال ليشعروا بمكانتهم، ليؤمنوا بأنهم مدللون ومهمون، ويكبرون بذلك الحب.


    تفادت
    منور عناق ليلى كيلا تذكرها بعناق الصباح الذي تخصّ به أباها ويخصّها به. وكانت تخاف
    من تدفق الحزن من خلال وهن الحب. فلجأت إلى التظاهر بالقوة. بأن أيا منهما لاتحتاج
    المحبوب الذي غاب، وستقبلان الحياة دونه ولن تكونا دونه ضعيفتين. استمر ذلك بعد موت
    بهاء. بكت ليلى بحرارة يوم أعلن الزائر الغريب مقتل بهاء وأعطى منور مذكراته
    الدامية. بكت من قلبها، وخيل لمنور أنها لم تر حبات دمع أكبر من دموع ليلى. ثم تجاهلت
    ليلى غياب بهاء، ولم تعد تذكره. بدت كمن نسيه. وأراح ذلك منور لكنها لم تنخدع بذلك
    الظاهر. فقد اختفى من البيت نصف الأسرة، اثنان، معتصم وبهاء! في بعض الليالي صرخت منور:
    أكان يجب أن أحمل أنا فقدين في وقت واحد؟ ياللظلم! لكنها حرصت على ألا تشعل ضوء غرفتها.
    وتحملت امتداد الليل وثقله منتظرة الفجر. شغلت نفسها بتحضير فطور جيد لليلى. الرز بالحليب
    المبطن بعصير البرتقال، والفطائر بالقشدة، المأمونية مع القرفة، السحلب، الهيلطية،
    كشك الفقراء مع الفستق الحلبي وماء الزهر. وكأنهما اتفقتا دون كلام على ألا يمسّ حزنهما
    الطعام فأكلت إحداهما كي تأكل الأخرى. قصدت منور ألا تطبخ طعاما كان يحبه بهاء. حتى
    سهت ذات يوم فحضّرت ملوخية على الطريقة المصرية. شعرت بخطئها وقت بكت ليلى فجأة وركضت
    إلى فراشها وغمرت وجهها بوسادتها. هرعت منور إليها وتحدثت عما تفادتا الكلام عنه. يجب
    أن نألف أنه غاب عنا. لكن يجب أن نستبقيه بيننا بالفرح لابالحزن. لم يعلّموك في المدرسة
    بعد أن الشهداء لايموتون لأن البلاد لاتبقى إلا بهم! لو كان الناس كلهم مثلنا يعيشون
    في بيوتهم ولم يخرج للدفاع عن الأوطان أحد لما بقي بلد كريما. قدرنا ياليلى أن نفقد
    أحباءنا لأنه لابد من الدفاع عن هذه البلاد. ستقرأين ذات يوم في التاريخ أننا محظوظون
    ببلاد ذات حضارات قديمة، فيها بدأ الإنسان يزرع ويحصد ويبني بيوتا جميلة فلم يعد صيادا
    يطلب المأوى في كهف. فيها كتب الإنسان أول مرة بلغة كانت خطوطا ثم صارت أحرفا. تقع
    هذه البلاد على طريق القارات. وفيها إلى ذلك ثروات وتراب خصب ومياه وأماكن مقدسة جميلة،
    وربما فيها أشياء أخرى ثمينة نجهلها. لذلك أتاها الغزاة من زمان طويل. فكان يجب أن
    يدافع عنها أهلها. كان فيها كثيرون مثل أبيك. جعل هذا حتى التراب ثمينا. كل ذرة تراب
    ياليلى منهم، طبقات فوق طبقات. ولابد أن بنات كثيرات لانستطيع أن نعدّهن فقدن مثلك
    آباءهن. والآن في سورية ومصر والعراق وفلسطين ولبنان توجد مثلك بنات بقي آباؤهن في
    فلسطين. فأحبيها كلما تذكرتِه، أحبيها كلما شعرتِ بغيابه! إياك أن تنسيها ياليلى، وإياك
    أن تسامحي بها الغرباء الذين سرقوا بيت خالتك وقبور أجدادك! أحبيها بمقدار ماتحبين
    الشام! ولاتفصلي الشام عنها أبدا!


    استمرت
    ليلى في البكاء فبدت منور كمن تكلم نفسها. لكنها كانت تعرف أن ليلى تسمع كلامها وأنها
    تحفظه لأنه يفسر لها لماذا قتل أبوها في الجليل. وكانت منور تعزّي نفسها خلال كلامها
    وهي تذكّر نفسها بأنها واحدة من ملايين النساء في بلاد الشام اللواتي فقدن أحباءهن
    وسيفقدنهم بعدها. كأن مصيرهن معلق بالعدل في الدنيا كلها. بيوم لايأتي فيه غريب إلى
    هذه البلاد إلا ليزور حضارتها ويمشي في أزقتها ويعجب بنظافتها وبساتيها. بغابات الفواكه
    التي تحيط بدمشق حتى تلامس الصحراء، بالجبل الذي تسند دمشق إليه ظهرها ويجري نهرها
    في واديه ويتسلق بفروعه شَرَفيها، ويعبر صخورها ليروي بساتينها في السفح ويدير نواعير
    الصالحية ويغسل حماماتها ويشطف مدارسها التاريخية وأضرحتها. ويوم لن يأتي غريب إلا
    ليتذكر الشعر الذي صدح في أمسياتها وترقرق على ضفاف سواقيها، عندئذ ستمد النساء أيديهن
    ويلتقطن له الورد الذي تحمله سواقي البيت، وسنقطف له الياسمين ونحبكه عقودا وأساور،
    وسنضع له الفلّة قرب كأس الماء، ونعلّمه كيف يعطر الملابس بصابون الطّيب. وسيصيد الزوار
    الجالسون على ضفاف يزيد مثلنا حب الآس الذي سقط من شجيراته الكثيفة في الماء.


    استدارت
    ليلى فجأة عن فراشها وعانقت منور. بدت دافئة صغيرة نحيلة وهي تتنهد من البكاء. وكادت
    منور تبكي عندئذ من الشفقة عليها. لكنها قالت لها وهي تربّت على شعرها: سنأكل الطعام
    الذي يحبه بهاء، وسنشعر بأنه معنا!


    بعد
    ذلك اليوم صارت منور تقصد أن تدعو أولاد سعاد إلى الغداء، أو زميلات ليلى في المدرسة.
    وملأ ذلك البيت بالضجة التي فقدها في غياب نصف الأسرة، وبأصوات أخرى شغلت ليلى.


    وجدت
    سعاد الصحون على الطاولة فنادت: اتركي القهوة الآن يامنور! سنشربها بعد الغداء! بلعت
    منور غصّتها بكأس ماء وعادت إلى سعاد. وركضت ليلى لتفتح الباب لرفيقتها: تركتني سمر
    لتخبر أمها بأنها نجحت، ورجعت لتتغدى معنا! فسّرت منور لسعاد: ابنة جيراننا في الصف
    نفسه مع ليلى! بيتها في البنايات الجديدة في عين الكرش وراء سوقساروجا!


    تفرجت
    سعاد على صديقة ليلى. تابعت اللغة التي تتكلمانها همسا وبالإشارات. كانت النظرة كافية
    لتعيد كلا منهما إلى قصة طويلة تتذكرانها. أيمكن أن تكون لهما في هذا العمر حكايا تستعيدانها؟
    كبح حضور سعاد في البداية ليلى ورفيقتها، ثم نسيتاها. وتظاهرت سعاد أيضا بأنها لاتنتبه
    إليهما. لكنها تابعت الصمت والهمس بينهما، وبريق العيون، واحمرار الخدود، والضحكة المكتومة.
    يالهذا العمر الجميل الذي يتفتح بعيدا عن الهموم! كم ابتعدنا يامنور عن الطفولة!
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية الجمعة يوليو 16, 2010 10:23 pm


    ذات
    يوم سيكتب راشد كيلاني عن تلك اللحظة التي عاشت فيها ليلى ورفيقتها وراقبتهما فيها
    سعاد: "عندما استسلم الحي اليهودي للقوات الأردنية في القدس ضغطت أمريكا وإنكلترا
    على مجلس الأمن فأصدر قرارا يلزم بوقف إطلاق النار. بدأت الهدنة في 11/6/1948 وطوال
    ثمانية وعشرين يوما تجول مندوبو اليهود في اوروبا وأمريكا طالبين السلاح وغيّروا مجرى
    الحرب. اشتروا من مركزهم في تشيكوسلوفاكيا طائرات مسر شميدت الألمانية المقاتلة وأودعوها
    في براغ كقطع تبديل وحضروها في ورشة في براغ واستعانوا بحكومة تشيكوسلوفاكيا، ونقلوها
    إلى إسرائيل. واشتروا أربع قلاع طائرة قاذفة للقنابل من الولايات المتحدة جُهز كل منها
    باثني عشر مدفعا رشاشا، أغارت على دمشق والقاهرة.



    كانت
    سورية قد أوفدت فؤاد مردم لشراء أسلحة من تشيكوسلوفاكيا. شحنها على سفينة. فلاحقها
    الصهاينة، ورشوا عمال ميناء براتسلافا فأخّروا إبحارها. أمّن فؤاد مردم إبحارها. لكنها
    عادت من عرض البحر كأنها تخشى عاصفة. وفجّرها البالماخ الذين تخفوا كبحارة. لكن الأسلحة
    أنقذت. دبر فؤاد مردم باخرة أخرى نقلتها. فسرّب الصهيونيون بعض رجالهم كبحارة. قبل
    وصول الباخرة إلى بيروت اعترضوها في البحر ونقلوا الأسلحة منها إلى سفينة إسرائيلية
    وأغرقوها".



    هزّ
    قصف قوي بيت منور. فهبّت واقفة واندفعت إلى غرفة ليلى. وصل اليهود إلى هنا؟ ماذا حدث؟
    ضمت منور ليلى إليها وسمعت دقات قلب ليلى على صدرها. رجع الهدوء وكان عميقا حزينا طويلا.
    ثم تدفقت أصوات الناس في الطريق. هل تترك منور ليلى وحدها في البيت لتستطلع ماحدث؟
    تتركها وقد يعود ذلك الانفجار؟ لا، يجب أن تحميها بجسمها! لاحظت أن وجه ليلى اصفر.
    فسقتها ماء الزهر، وغسلت وجهها. ثم أمسكت بيدها وخرجتا من البيت في حذر، كما سيخرج
    مئات الأطفال الفلسطينيين وأهلهم بعد عقود ليفحصوا البيوت والسيارات والأسواق التي
    يقصفها الإسرائيليون! وجدت النساء والرجال والأطفال يمشون في اتجاه واحد، وجرت
    معهم. سمعتهم: قصفت طائرة يهودية دمشق! يأتوننا من السماء التي نفتح نوافذنا في الصباح
    عليها، وننتظر فيها قمر الليل! كانت ليلى لاتقبل أن تلبس معطفا إلا إذا تفرجت على السماء
    ووجدتها مغلقة بالغيوم. وكانت منور تحاول دائما أن تقنعها: برد، ولو كانت السماء صاحية.
    هذا شتاء، البسي معطفك! كم مرة تكرر ذلك الحوار بينهما؟ من تلك السماء التي يتجول
    فيها السنونو في المساء نزلت قنابل الطائرة. كم كانت منور تحب مساء دمشق الحافل بأصوات
    السنونو وهيجان أسرابه التي تدور في سماء المدينة! جرت مع الناس وهي تشد قبضتها على
    يد ليلى. لكنها لم تمش كثيرا! على بعد مئات الأمتار من بيتها لمحت البناء المقصوف.
    فارتدّت إلى الوراء لتعود بليلى لكن ليلى جرّتها وهي تركض وتصرخ: سمّورة! بذلت منور
    جهدا كي تكبح ليلى. ولكن هل يمكن أن يخفى دمار بناء؟ طوال نصف قرن قادم لن يستطيع أحد
    أن يمنع الناس من الوصول إلى البيوت التي تقصفها إسرائيل، ليجمعوا الأشلاء وينقذوا
    الضحايا. وسيكون القتلى والضحايا دائما عربا، فلسطينيين أو لبنانيين أو مصريين أو عراقيين!



    عندما
    وصل رجال ونساء بملابس بيضاء، أبعدت منور ليلى قسرا. ضمتها إليها بالقوة وجعلت ظهرها
    إلى الناس. وظلت تقبض عليها حتى استسلمت. وكأنهما تفاهمتا على أن منور ستعرف الحقائق
    فيما بعد وسترويها لليلى. لكن فات منور أن سمع ليلى صار بصرها. وأنها عرفت الموت الذي
    تمنت ألا يكون مصير سمر التي دللتها فنادتها سمّورة. عرفت أن القتلى والجرحى نقلوا.
    لم تعد منور تشعر بتوتر ليلى على جسمها. ثم ارتخت وكادت تسقط لو لم تشدها منور
    إليها. عادت بها على ذراعيها. ورفضت أن يحملها أحد من الجيران الذين مدوا لها أذرعهم.



    جلست
    منور في غرفة معتمة قرب ليلى. متى كانت تغني لها أو لأخيها؟ متى كان صوت منور شجيا
    عميقا حلوا مطربا وحزينا؟ من قصّ ذلك الماضي عن الحاضر ورماه كأنه من قرون سحيقة؟ رددت
    بينها وبين نفسها: ياربي! وكادت تطلب منه، كما يطلب الضعفاء، أن يرجم الظالمين بتلك
    الحجارة من سجّيل! ثم نفضت ظهرها فاستقام. ظلت تربّت على شعر ليلى: كم هو ناعم! وياله
    من حرير ثمين!



    كانت
    سمر قد حملت، دون أن تدري، بعض حِمل منور بصداقتها لليلى. بحرارة مايصل طفلتين في عمر
    واحد في صف واحد وفي بيوت متجاورة. وهاهي تُسرق منها! هل تستطيع منور أن تستنجد بأولاد
    سعاد؟ ستفهم ليلى ذلك كلعبة وسترفضها. لانستطيع أن نمنع الحزن عن الأطفال! هل نلام
    إذا كرهنا اليهود الغرباء وحقدنا عليهم، وإذا عشنا في انتظار أن نصبح قادرين على ردّهم
    عن المدن التي احتلوها؟ هل يمكن أن يعترف أي واحد منا بأن ماسرقوه صار حقهم الشرعي،
    ولو اعترفت دول العالم كلها لهم ومنها الدول العربية؟ من سيعيد لنا القتلى الأعزاء،
    من سيعيد لي بهاء ويعيد السمّورة لليلى؟ كبرت ليلى مبكرا، ولاتستطيع منور أن تمنع هذا
    النضج الحزين! لكنها شعرت بأنها يجب أن تدلّلها وأن تظهر لها الحب كأنها مئات الأمهات.



    بدأت
    تربت على راحة ليلى، ثم تطوي أصابعها إصبعا إصبعا كأنها تكرر لعبة بهاء مع ليلى. واستسلمت
    ليلى لها. وكأن الذكريات ملأت الغرفة حولهما بنسيم ناعم. غدا ستبحث منور عن الأحياء
    من أسرة سمر، وستزورهم مع ليلى. ولتسمع ليلى كل ماسيقال!



    نهضت
    منور فجأة، وفتحت الدرج الذي تضع فيه الصور. وأخرجت الصورة التي تذكّرتها، ورفعتها.
    تجمع الصورة ليلى وسمّورة، متشابكتي الذراعين، وإحداهما تميل برأسها نحو الأخرى. ماتزالان
    صغيرتين، ياربي! مسحت عينيها ووضعت الصورة قرب سرير ليلى. وعادت تربت على شعرها
    الناعم كالحرير.
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية الجمعة يوليو 16, 2010 10:24 pm


    وقفت
    ليلى مرات أمام صورة سمّورة. ثم ألفتها. يجب أن نعيش ياليلى الحياة التي لم يعشها
    المفقودون الأعزاء! يجب أن نتتفس الهواء عنهم، وندرس عنهم، ونشعر بأنهم يرافقوننا
    في الطرقات! ألا تشعرين بأن الدنيا تصبح أحلى عندما يوجد فيها حتى اولئك الذين
    قدّر عليهم أن يبكّروا بالرحيل منها؟!



    رأت ليلى من النافذة غيوما وردية. مايزال
    الناس يغلقون نوافذهم لكن رائحة الربيع تهف. هل هذا عبق الربيع أم عبق العمر
    المزهر من الطفولة إلى الصبا؟ فتحت النافذة ومدّت نفسها منها لتحيط بأكثر مايمكن
    أن تحيط به من الغيوم. بم فكرتِ ياليلى؟ وأي فرح هطل عليكِ كالمطر وبللك؟ ألم
    تلاحظي أن الناس يمشون في الشارع بالمعاطف؟



    وضعت كرسيا وقفت عليه وفتشت الرفوف في أعلى
    الخزانة. انحنت وفتشت الدروج في أسفلها. هاهي! تنورة مزهرة بشيالين من الكشاكش
    وبلوزة بيضاء! خلعت الثوب الصوفي الذي اشترته لها منور من المخزن الهندي الكبير
    ولبستها. وخرجت من البيت.



    مشت في اتجاه الغيوم
    الوردية. وتبينت أن ألوانا بنفسجية صارت ترتسم في أعماقها. في مكانٍ تغير اللون
    الوردي وتوهج، وفي مكانٍ آخر أعتم. قطعت شارع الصالحية. وأصبح الضوء نفسه ورديا
    عندما وصلت إلى شارع أبي رمانة الذي فُتح وسط البساتين. لاشيء يحجب عنها الغيوم هناك.
    أمامها حديقة أبي العلاء المعري في أعلى الشارع، حديقة جديدة مرتبة، يسيل الماء في
    قنوات فيها من الحجر. فيها بعض أشجار ومدرج أخضر وبعض مقاعد وضعت في المطل على
    منحدر الشارع والبساتين حوله والحديقة. من يتصور أن الشارع سيجرف بساتين أبي رمانة
    ويحرم المدينة منها، وستتفرع منه شوارع أخرى تبدد بساتين كيوان والنيربين والمئذنة
    والربوة؟ ماتزال البساتين تطوق البيوت. وماتزال البساتين تحيط بالطرقات التي
    عبرتها ليلى. شجر المشمش والجوز والتوت على مدّ العين. وفي أول شارع أبي رمانة
    تدفق الماء على العشب قويا ذا رنين. وزاد ذلك من البرد. وليلى بقميص صيفي قصير
    الأكمام، بتنورة صيفية مزهرة! في طريقها عبرت قلّة من الناس فهل نظروا إليها دهشين
    أم مشفقين؟



    جلست على طرف حاجز الحديقة. كأنها أحاطت
    نفسها بالغيوم والسماء. تجاهلت البرد. تتدفأ بوهج الغيوم؟ خيل إليها أن الهواء
    نفسه أصبح ورديا. كانت السماء مدهشة لكن الأرض موجودة أيضا. يالهذا الصحو! ماأبعده
    عن دوارها عندما تستلقي على السطح فتصبح السماء وحدها موجودة، ويتسع الكون حتى
    يصبح دون نهاية، دون سقف، دون قعر، دون موطئ لقدميها. فتظن أنها تسبح في زرقة
    عميقة. ليل النجوم غير ذلك! تضحك منور وهي تجلس قربها: تفرجي على نجوم درب التبّان!
    كنت أحبها كثيرا وأنا صغيرة! درب من النجوم! عندما تتأملين النجوم زمنا، تحبينها،
    وتفهمين لماذا علق العرب القدماء مواليدهم بأبراج السماء. كانت دليلهم إلى الطريق
    في صحراء لاثوابت فيها. ليتك تختصين عندما تكبرين بالفلك. علم العرب العظيم الذي
    نثر مراصدهم في أنحاء بلاد الحضارة الإسلامية!



    كانت ليلى في مثل تلك اللحظة تنتبه إلى أن
    منور تريدها أن تعمل مافاتها أن تعمله. في ذلك اليوم سألتها: أحببتِ أنت أن تدرسي
    الفلك؟ ياليلى، يتمنى الإنسان أحيانا متأخرا مالم يعد قادرا أن يعمله. في الشباب
    لم تشغلني النجوم! عندما انتبهت إليها كان الشباب قد مرّ وأجيال أخرى تدرس في
    الجامعات. عندما رأت منور في دفتر الرسم على طاولة ليلى، سماء نيلية فيها نجوم
    بيضاء وصفراء وبرتقالية قالت لليلى: ماأجملها! ارسمي ياليلى، ارسمي! لاتقلدي
    ماترينه بعينيك بل ارسميه كما ترينه بقلبك! تمنيتُ لو أستطيع الرسم! سألتها ليلى:
    كنت تحبين أيضا أن ترسمي؟ ضحكت: أحببت الرسم. رسمت لنفيسة طواويس على قماش
    لتطرزها. بقيت تلك الطواويس على ستائر غرفتها!



    هل أدهش ليلى أن أمها تمنت أشياء كثيرة في
    الحياة؟ قالت لها مرة: لكني لاأستطيع أن أكون رسامة وفلكية فوق ماأريده أنا!
    التفتت إليها منور: لن تكوني إلا ماتريدين أن تكونيه! ولكن ماهذه المفاجأة؟ يعني
    فكرت بينك وبين نفسك بم تريدين أن تكوني! لم تلمها إلا لأنها لم تشاركها في قرار
    مهم! ولم تكن تكلمها كما تكلم طفلة، بل كما تكلم صديقا في عمرها. ردّت ليلى: قررت
    أن أكون طبيبة! طبيبة ياليلى؟ لماذا؟ ظلت ليلى تتذكر تلك البرهة سنوات طويلة وستحدث
    عمرا عنها، فيما بعد. ردّت: كي أمنع الموت! إذا ذهب رجال مثل أبي ليستعيدوا بلادنا
    سأكون معهم! وضعت منور كفيها على وجهها وبكت. وغضبت على نفسها لأن ليلى أخذتها
    فجأة فهربت إلى غرفتها. كانتا إذن تخفيان الرجل الذي بقيتا تعيشان معه بالرغم من غيابه!
    لكن ليلى ستعرف ذلك في عمق فيما بعد. عندما يصبح الغائب رجلها الذي أحبته متأخرة.



    هل استعادت ليلى حديثها مع أمها عن
    الأمنيات وهي جالسة على طرف حديقة أبي العلاء المعري بثياب صيفية في برد شباط؟ بل
    كانت بقوة الفتوة مبهورة بما تقدمه الحياة. المستقبل والحاضر أقوى من الماضي لمن
    في عمرها. ولم تدرك هناك اختلافها عن منور. ولن تدركه إلا بعد عقود عندما لن تكون
    منور موجودة، ولن تكون ليلى قادرة على التعبير عما فاتها أن تقوله لها مخترقة
    مابينهما من مهابة تحاشتا بها ماتفجره العواطف.



    انصرفت ليلى إلى الضوء الوردي. تقلبت فيه
    وهو يخبو ثم يندلع فجأة ناريا. تلفتت لتعرف من أين أتى ذلك الوهج في آخر النهار.
    كان متدفقا كأنه وداع الضوء العظيم. هجم لون بنفسجي، ثم رمادي. انسحب الوهج وانتهت
    الفرجة فنهضت ليلى ومشت راجعة إلى البيت. كانت البساتين قد غيّرت ألوانها وأصبحت
    مهيبة بلونها النيلي القاتم. لكن السماء مقابل ليلى أصبحت مذهلة بلونها النيلي
    العميق. وتقدمت ليلى منها.



    لم تنتبه إلى البرد؟
    عندما وصلت كانت ترتجف. كانت منور قد رأت الثوب الصوفي على سرير ليلى. إلى أين
    خرجت ليلى التي ترتب عادة ثيابها؟ هل تعترف بأن خوفها عليها يتجاوز الخوف على ولد؟
    تشعر منور بأن ليلى لها الحاضر والمفقودين. وتكبح نفسها كيلا تقيّد ليلى بحب يفرض
    قيودا تأسرها وتذبلها. كان يمتعها أن ترى ليلى تنمو حرة، مستقلة عنها، وأنها قررت
    ماستدرس في الجامعة وهي لم تنه بعد المدرسة. كادت تقع من القلق عليها. وتبيّنت كم
    هي ضعيفة وهشة في خوفها على ليلى. خنقت قلقها عندما رأتها من النافذة تمشي كالطير
    الحرّ. ماأجملها! أصبح هاجس منور أن تبقى حيّة لتحرسها حتى تكبر. وأن تبقى قوية كي
    تكون شراشف ليلى نظيفة، وملابسها جميلة، وطعامها طيبا.



    لفّتها منور بحرام صوفي نبيذي وسقتها كأس
    شاي بالزنجبيل. استسلمت ليلى لذلك الدفء وهي ترتجف. لم تسألها منور أين كنت. قالت
    ليلى جملة واحدة: كان لون السماء ورديا. "بيجنن"، يامنور! عندئذ قالت
    منور: مشوار بثياب صيفية في البرد؟ إذا اشتقت إليها البسيها في البيت! وهل ستلبسين
    ثوبك الصوفي في الصيف؟ ياليلى، لكل شيء أوان! العنب طيب في آب، والبطيخ لذيذ في
    الحر، والبرتقال للشتاء، والزبيب والتين والجوز لأيام البرد! يوم يخرّب التقدم
    الدورة الزراعية، فتضيّع الفواكه والخضار أوانها، ستقول ليلى: لاأحب البطيخ إلا في
    الحر. ولاآكل العنب إلا في آب. ولاأقبل البرتقال إلا في الشتاء!.
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية الجمعة يوليو 16, 2010 10:25 pm


    لماذا
    يبدو لنا أننا سنبقى ثابتين إلى الأبد كما نحن في هذه اللحظة؟ لم يخطر لمنور التي
    تحملت كارثة المجاعة في بيروت خلال الحرب العامة، ووزعت أرغفة الخبز على الجائعين
    فأنقذت فتيات من الدعارة، أنها قد لاتبقى ذات يوم متماسكة وقوية. بل خيل إليها
    أنها تحملت مقتل زوجها وابنها في شجاعة. وستقول سعاد: كان ذلك صحيحا، حتى فتحت
    الانقلابات العسكرية جروحها! أنا التي عشت في فلسطين أيام الثورة ورأيت ظلم
    الاحتلال أعرف أن الإنسان ليس صخرة، واجبه أن يعطي للحزن حقّه! منور تكابر وياخوفي
    من أن تقع فجأة!



    لم
    يخف على سعاد أن "مرض" منور يبدو في قلقها على ليلى. فكرت في أختها تلك الليلة
    وبحثت عن طريق إليها. ثم قررت أن تنبش ما تخفيه منور وتتركه يأكلها قطعة قطعة. قالت
    لها: اسمعي! راح بهاء فدى فلسطين مع من راح فدى لها. كسر ظهري غيابه، أنا أيضا! يوجعني
    أني لم ألتق به في المرة الأخيرة إلا وأنا آتية من فلسطين وهو ذاهب إليها. لم أسقه
    فنجان قهوة! لكن لنفهم أن ذلك قراره. كان يمكن أن يقتل في ثورة 36 يوم كان مع المتطوعين
    العرب! كسب أكثر من عشر سنوات من الحياة بعد تلك الثورة، شاركتِه أنتِ فيها! غضبت منور:
    يحسب علينا مانعيشه كأنه هبة، وكأن الموت هو الطبيعي في هذه البلاد؟! نستحق غير ذلك،
    ياسعاد خانم! هذه بلادنا، لم نسرقها من أحد ولم نأت إليها كالمستوطنين اليهود الغرباء
    عن بلادنا ولغتنا وعاداتنا! قتل بهاء في الجليل وهو في ذروة قوته ونضج عقله! أنا التي
    خسرته؟ خسرته بلاده! وخسرته ليلى! ولاتزال طفلة!



    هل
    أخطأت سعاد، بالرغم مما صرفته من ليلة الأمس في التفكير، عندما سلكت هذه الطريق إلى
    منور؟ قررت أن تمشي إليها بخط مستقيم. قالت: إذا كنت تخافين على ليلى فابعدي الحزن
    عنك! لاتظني أن الأطفال لايلاحظون مافي قلوبنا! لكن افهمي أن حزن الأطفال ليس كحزننا.
    حزنهم حار لكن الدنيا التي أمامهم تشغلهم عنه. سيدخل أشخاص جدد إلى حياتهم وسيصبح المفقود
    ذكرى حلوة. نحن الذين لانستطيع أو لانريد أن نجدد المحبوبين، نظل ندور حولهم وننتشل
    التفاصيل التي لم ننتبه إليها فنجعلهم أحياء أكثر مما كانوا، فنزيد في حزننا عليهم
    ونصبح في غيابهم أكثر وحدة! هزّت منور رأسها! يريحها أن تطمئنها سعاد إلى أن ليلى سترى
    بهاء كذكرى حلوة، وستحفظه لكن أشخاصا آخرين سيأخذون المكان الواسع الذي تركه! يريحها
    أن تعترف سعاد بحزنها على بهاء وأن تفهم أن منور قررت أن تبقيه حيا أكثر من الأحياء
    وتعتّق حزنها عليه! ولكن لماذا بدا معتصم كأنه منسي؟ مع أن معتصما قطعة من روحها؟ ألأن
    الثكل عميق ومؤلم لذلك تتفادى سعاد أن تلمسه، ويتفادى ذلك الناس، وتحاول ليلى ألا تذكر
    معتصما بالرغم من أنه كان لها كالأب الحنون؟ أم لأن موته مؤلم أكثر من موت بهاء، لأنه
    مخجل، لأنه موت برصاص سوري بعد الاستقلال؟ كانت صورة بهاء تطل عليهما من الحائط، وبدا
    بابتسامته الرائقة كأنه يشارك سعاد كلامها إلى منور. رأت منور فيه روحا أخرى وهي تنظر
    إلى الصورة. لكنها انتبهت إلى غياب صورة معتصم من أي مكان في البيت. كيف حدث هذا الغياب؟
    هل قصدته لتهرب من وجعها الأكبر؟ لايحزنون على الابن عندما يستعاض بآخر يعزيهم عنه.
    لكن من ينجبه راح معه! وياسواد ليلك يامنور!



    فهمت
    سعاد أن قلق منور يبدو في خوفها على ليلى. كأنها تريد أن تجعل ليلى تكبر خارج الأحداث.
    بعيدا عن الحزن العام وحزن منور، بعيدا عن ضياع فلسطين ولجوء سعاد. يجب أن تعبّ ليلى
    كثيرا من الأفراح، وأن تعيش فتوتها كفراشة حتى تكبر، بعدئذ فلتختر ماتسمعه أو تسعى
    إليه من الهموم والأحزان! يامنور، كوني عاقلة! هل لديك مقص تقصين به ماتلصقينه حول
    ليلى وما تحذفينه؟ هذه حياة، اخترنا أن نعيش في وسطها. لم ننف أنفسنا إلى هامشها! تساءلي
    دائما لو كان بهاء حيا ماذا كان يفعل؟



    في
    ذلك اليوم حملت منور صورة معتصم وقصدت محل "فمينا" قرب البارلمان، أفخم مخزن
    في طريق الصالحية. بحثت هناك عن إطار للصورة. تبينت لهجة البائعة الفلسطينية.



    - من أين أنت؟


    - من حيفا!


    - من البلد التي ولدتُ فيه، إذن! أتيتِ مع اللاجئين؟


    - رأيت الموت مع أهلي قبل أن أصل مع اللاجئين! هجم
    اليهود علينا بالرصاص والقنابل!



    - مااسمك؟


    - ميمي! أصلي يوناني!


    تجد
    منور فلسطين أينما تلفتت. لو تستطيع أن تقول للغرباء الذين قرروا التقسيم في مجلس الأمن
    ووهبوا الغرباء أكثر من نصف فلسطين، لو تفهمون أنكم لم تحلوا المشكلة بل غرستم أساسا
    لها. فلسطين موجودة في عمرنا فكيف تقصونها منه؟ بالقوة والقتل؟ لابد إذن من القصاص
    واستعادة المدن المسروقة!



    - ياميمي، هذه الصورة لابني الذي قتل هنا باسم فلسطين!
    انتقي لي أجمل إطار لها!



    - هذا أبسط إطار ياخالتي! وهو أجمل إطار. تفسد الزخرفة
    جلال الموت!



    - لذلك لم أكبّر الصورة. فلتسبح وسط هذا البياض!


    - نعم ياخالتي، لاتحتاج التكبير!


    بيدين
    ناعمتين رشيقتي الأصابع ثبتت ميمي الصورة في الإطار ولفتها بورق أزرق. وضعتها منور
    على الصندوق المصدف. فلاحظتها ليلى وأدهش منور أنها لمستها مبتسمة: معتصم! ماأحلى ابتسامته!
    هزّت منور رأسها. يبدو أن الحق مع سعاد! شاركت ليلى في تأمل الصورة: صحيح، وماأحلى
    أسنانه!



    حدث
    ذلك قبيل انقلاب حسني الزعيم.



    حضّرت
    منور الفطور، وضعت بيضة في صحن ليلى، سكبت حبة من المكدوس ووضعت الصحن في أفضل مكان
    بين صحون اللبنة والمربى. تحب ليلى في الصباح أن تشرب الشاي وتأكل معه المكدوس. تنظر
    إليها منور في متعة وهي تتذوقهما كل صباح. لاتغير العادة أبدا طربها بهما! لكن منور
    تدفع البيضة اليومية بين تلك الصحون كمن يؤمن بأن ليلى تكبر بها. هاهي ليلى ذات هوى
    وطباع: لاتقدم شيئا على فنجان الشاي والمكدوس في الصباح، وتترك كأس الحليب للمساء.
    الفطور جاهز، ستجده ليلى في انتظارها على الطاولة عندما تدخل إلى المطبخ. وستجلس مقابل
    عريشة البنفشا البيضاء التي نثر الهواء تويجات زهرها على الحارة أمس! تستطيع منور إذن
    أن تشعل الراديو لتسمع أخبار الصباح في هذه الدنيا التي لم تهدأ منذ حرب فلسطين!



    سمعت
    موسيقى عسكرية! خفضت الراديو وانتظرت. نظرت إلى إبرة الراديو. نعم، الإبرة على إذاعة
    دمشق! ماذا جرى إذن؟ أنصتت وانتظرت. انقطعت الموسيقى. "بلاغ رقم واحد"! كادت
    تندفع إلى الطريق. هدأت نفسها. واستمعت إلى الصوت. كأنه يعلن انقطاع الحياة المألوفة!
    "مدفوعين بغيرتنا الوطنية ومتألمين مما آل إليه وضع البلد من جراء افتراءات وتعسف
    من يدّعون أنهم حكامنا المخلصون، لجأنا مضطرين إلى تسلم زمام الحكم موقتا في البلاد التي نحرص على المحافظة
    على استقلالها كل الحرص، وسنقوم بكل مايترتب علينا نحو وطننا العزيز غير طامحين إلى
    استلام الحكم، بل القصد من عملنا هو تهيئة حكم ديمقراطي صحيح.."



    لاتهمها
    البقية! أسرعت إلى الروزنامة وانتزعت ورقة اليوم السابق منها. هذا زمن جديد، يبدأ في
    الثلاثين من آذار سنة 1949.



    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية الجمعة يوليو 16, 2010 10:26 pm






    كانت
    ليلى قد خرجت من الحمام مغسولة الوجه، ممشطة الشعر، جاهزة للفطور. تجلس في السابعة
    والنصف تماما كل يوم لتستمتع بفنجان الشاي والمكدوس على مهل. تخرج بعد عشر دقائق من
    البيت. يكفيها مابقي من الوقت للوصول إلى مدرستها في طريق الصالحية! مدرستها التي كانت
    ذات يوم معهد الطب الأول، وكانت قبل ذلك قصر زيوار باشا. بناء من الحجر والقرميد تحيط
    به حديقة واسعة. قالت لها منور: كلي بهدوء! وابتسمت: كأنكِ في يوم عطلة! ماأحلى عيني
    ليلى الدهشتين!



    - ستنتظرني رفيقتي قرب الباب!


    - أدخليها عندما تأتي وادرسا هنا! المدرسة مغلقة ومصفحات
    الجيش في الشوارع.


    كادت
    ليلى ترمي نفسها على أمها. جيش؟ أي جيش؟ الجيش الذي قتل أباها؟ أم الجيش الذي قتل أخاها؟
    وطمأنها هدوء منور.


    استعادت
    منور قصة فساد السمن التي تناقلها الناس. حكوا أن القوتلي زار مع خالد العظم
    معسكرات الجيش. ثم تفقد طعام الجنود. وطلب أن تقلى له بيضة فلم يستسغ رائحة السمن.
    اختار تنكة سمن من مخزن تموين الجيش فتحت له فأيقن أنها فاسدة. فاعتقل أنطون البستاني
    المسؤول عن تموين الجيش. بحث النواب في البارلمان فساد التموين. وجد فيصل العسلي نائب
    بلودان، رئيس الحزب الاشتراكي التعاوني، فرصة ليلقي خطابا يهاجم فيه قيادة الجيش. أذلك
    رد حسني الزعيم قائد الجيش، أم خلفه مسائل أخرى؟!


    عندما
    وصلت سعاد إلى بيت منور كانت ماتزال غاضبة. نقلت مارواه عبد الرحيم عن الانقلاب. اجتمع
    حسني الزعيم بضباط الجيش في القنيطرة، تحدثوا عن الهجوم على الجيش في البارلمان، وكتبوا
    مذكرة إلى رئيس الجمهورية. حملها له حسني الزعيم. فقال له القوتلي: صار ضباط الجيش
    كالمخاتير يجمعون التوقيعات ويحملون العرائض؟ زار القوتلي ضباط آخرون بينوا له أن غضب
    الضباط حقيقي، يتجاوز كلمة العسلي في البارلمان. ويبدو أن خالد العظم، رئيس الوزارة
    زار القوتلي ليبحث معه المسألة نفسها. جرى الحديث عن ذلك حتى في نادي الصفا. اجتمع
    الزعيم بالضباط في القنيطرة وقرروا الانقلاب.


    قالت
    سعاد: لكن يبدو أن اتفاقية التابلاين ومباحثات الهدنة هي السبب. تردد البارلمان في
    التوقيع عليها. وسيوقع عليها بهذا الانقلاب! اعتقلوا القوتلي والعظم ونقلوهما إلى سجن
    المزة! واستقر حسني الزعيم كالطاووس في مديرية الشرطة! ومعه من يامنور؟! احزري! معه
    ابراهيم الحسيني! قال لي عبد الرحيم اطلبي من منور خانم أن تزور الحسيني وتفهمه مكانة
    القوتلي! وتذكّره بأن هذا الرجل الوطني حمل فلسطين على كتفيه! فلتذكّره بأن القوتلي
    كان من جمعية الفتاة!


    ابراهيم
    الحسيني الذي كنتُ أساعد أمه في غسله؟! ابراهيم الذي سألوني رأيي في زواج أخته أسماء
    من الحبوباتي؟! سأذهب إلى أهله! بل سأذهب إليه! لايستحق القوتلي أن يسجن في السجن الذي
    بناه غورو! ولايستحق ذلك خالد العظم الذي ينفق من ماله على السياسة! هل ننسى أن خالد
    العظم رفض أن يستقبل الفرنسيين الذين أتوا بعد فيشي، في أسفل الدرج كما طلبوا، بل انتظر
    أن يصعدوا هم إليه؟! هل تنسى منور أن خالد العظم، ابن سوقساروجا، ألجأ الحكومة إلى
    بيته يوم قصف دمشق في أيار؟! قالت منور مازحة في مرارة: لخالد العظم فضل علي.. يوم
    عبرت الحكومة البحصة لتلتجئ إلى بيته، قصف الفرنسيون سوقساروجا وامتلأ بيتي بالغبار
    ورائحة الحريق! نعم، للرجل فضل علي! كان يمكن أن تتناول سعاد سخرية منور وتمدّ منها
    حديثا بينهما، لولا غضبها من اعتقال القوتلي. هل تذكر لمنور أنه جلس إليها في أيام
    الثورة وطمأنها إلى أن السلاح سيرسل إلى الثوار؟ ولم تكن يومذاك تعرف أنها ستجلس على
    ذلك السلاح طول الطريق! قالت: يرى عبد الرحيم أن أكرم الحوراني هو الذي كتب البلاغ
    رقم واحد! يظن الحوراني أن الانقلاب العسكري سينهي الفساد ونفوذ التجار!


    كانت
    ليلى واقفة قرب النافذة تربت على القطة التي تمد لها رقبتها كلما اقتربت يد ليلى منها
    كأنها تطلب: وهنا أيضا! التفتت سعاد إلى ليلى ثم التفتت عنها. هل تقول لمنور: تمنيتِ
    أن تبعدي ليلى عن مصائبنا؟ تفضلي! احبسيها في غرفة!


    خلال
    الحديث بعد القهوة بدا لمنور وسعاد أنهما ما كانتا يجب أن تفاجآ بالانقلاب. فالغضب
    بعد حرب فلسطين لابد أن ينفجر بشكل ما! رمى الناس التقصير على خيانة السياسيين، وضعف
    العسكريين، وتآمر الدول العظمى. ورمى العسكريون التقصير على السياسيين. ورمى السياسيون
    التقصير على الجيش! اتهموا الشرباتي بأن زوجته يهودية ليتوانية. وقالوا ماذا ينتظر
    إذا كان غلوب هو القائد الأعلى للجيوش العربية؟ أليس هو الذي اقترح صيد الجيش المصري
    بطريق يعبرها في الانسحاب؟ نبشوا حتى للقوتلي أخطاءه. يبدو أن فيصل العسلي أشعل عود
    كبريت! لكن المجنون فقط يرى أن هدف الانقلاب إبعاد العائلات الغنية عن حكم البلاد!



    نهضت سعاد: سأمر بعمتي نفيسة. وأنت يامنور،
    اذهبي إلى ابراهيم الحسيني، يرضى عليك!


    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية الجمعة يوليو 16, 2010 10:28 pm


    ربطت منور منديلها الأسود على شعرها وخرجت من البيت. كانت قد أرجأت قرارها حتى اللحظة الأخيرة: هل تقصد ابراهيم الحسيني في مكتبه أم تقصد بيت أهله؟ بعد خطوات مشت في اتجاه الجامعة. مكتبه في مديرية الشرطة
    مقابل
    الجامعة.


    كأنما كانت جدران البيت تحجب عنها هواء نيسان! رفّ طرف ثوبها عندما أغلقت الباب. وشعرت بأنه ظل يرفّ مع خطوتها. فتلفتت كمن يبحث عن البساتين التي لابد أن تكون في أول اخضرارها النضر. وكأنما تدفق عليها مع النسيم رضا لم تعرف سببه المفاجئ. وستعاني فيما بعد مثل تلك الموجات من الفرح التي يثيرها النسيم، تتبعها موجات من الأسى. مشت مستقيمة القامة كفتاة في العشرين. لايستطيع ثوب الحداد الأسود أن يدفع عنها سحر شهر نيسان في دمشق! في نيسان ترتعش ثلوج جبل الشيخ تحت الشمس، تبرق وتذوب متسربة إلى بردى. وعلى عرض طرقات بلودان يسيل الثلج الذي ذوبته الشمس، وتزهر أشجار اللوز. وفي دمشق تكتظ عرائش البنفشا بأزهارها البيضاء والصفراء وتفوح بعطرها الناعم، وتبدأ بواكير الفواكه، ويصل المشمش الهندي في السلال من لبنان، وتبدأ حبات الفريز بالاحمرار في الأحواض، ويأتي الفستق من حلب في سلال الفلاحين، ويفوح المنثور، وتظهر أحيانا بقايا باقات البنفسج المتأخر على فرش يحمله فلاح.


    لو أغمضت منور عينيها عن إشارة الروزنامة إلى الشهر لخمّنت من خفقة النسيم أنه شهر نيسان! لايمكن أن تخطئه! فهل تحجب قلبها عنه من الحزن على بهاء ومعتصم، ومن الاضطراب الذي بدأ يجرف البلد بأول انقلاب؟ تنهدت واستسلمت لنيسان. وانسابت على فرح ناعم هادئ لايريد أن يشعر بالذنب أو بالندم. لن تحاسب الشباب المتدفق في قلبها وقوة الحياة في مشيتها وحركة ذراعيها وخطوتها، ولن تسأله هل لها الحق فيه بعد أن غاب الحبيب، ولو كانت في هذا العمر! للبهجة بالشباب أعمار موقوتة لايجوز أن يتجاوزها أحد؟ لاتبالي بأن تصحح ذلك الآن فتهتف: ليست لروح الإنسان أعمار!


    انسابت في أفكارها كأنها تسري على نسيم نيسان. ووصلت إلى نفيسة. ماأعجب أن تستعيد عواطف بهاء نحو نفيسة الآن وهي تمشي إلى ابراهيم الحسيني! كأنها تريد أن تشاركه فيها متسللة إلى علاقته الخاصة بها. كان بهاء يحب نفيسة لأنها العزيزة على أبيه، والجزء الحي الباقي منه؟! أم كان يدهشه شبابها العصي على العمر؟ كأنها كانت بحيويتها تهشّم تقسيم الحياة إلى شباب وكهولة وشيخوخة، بين بقاء وفناء! فكان بهاء يتأملها كأنه يستقصي أسرار الخلود! تتذكر منور الآن أنها قالت له مرة وهي تتابع نظرته المعلقة بنفيسة: تكتشفها بعد كل هذا العمر؟ ابتسم يومذاك، وكأنها ترى ابتسامته الرائقة الآن. قال: وأكتشف روحي! أكتشف أنواع الحب التي يستطيعها إنسان! وربما أكتشف ماتستطيع المرأة أن تكونه لرجل! تعرفين أني تبيّنت وأنا أنظر إلى نفيسة سعادة أن تكون لي أم لاأحتاج أن تطعمني أو تعنى بملابسي ونومي، بل أن تكون فقط موجودة؟ قالت له منور يومذاك: يابهاء ألا تحاول أيضا أن تتسلل إلى عمتي نفيسة لتعرف الدروب التي قطعها أبوك خالد آغا إليها؟ ابتسم: ربما، وذلك أيضا! لكن مايذهلني أن تبقى نفيسة خانم شابة بالرغم مما رأته من الموت!


    هل أعاد منور إلى نفيسة نسيم نيسان أم شعورها بقوة الشباب؟ تنهدت! أي شباب هذا وهي مصبوغة بلون الحداد، وبلدها على كف عفريت! لا، لعل ماتشعر به من القوة ليس قوتها كفرد، بل قوة الأرض والناس التي تستمر بالرغم من المصائب والهزائم! انتصر المحتلون عليها، قتلوا رجلها المحبوب، خطفوا مايمكن أن يكون سعادة تمتد على بقية عمرها، لكن ذلك ومضة في الزمن في هذه البلاد التي كانت قبلها وستستمر بعدها! هل تقبض الآن على سر هدوء نفيسة بالرغم من الموت الذي خطف خالد آغا؟ وخطف سعيدا ونوري؟ ربما تصل الآن إلى السر الذي تقصّاه بهاء في بحثه عن شبابها وهمّتها!


    انحدرت منور في الطريق المرصوف بالحجر الأسود بعد التجهيز ومشت بين حديقتين تحبهما. التفتت إلى يسارها ورأت البحرات في الحديقة. أحسن رجال الاستقلال يوم رتبوها لتستحضرعلى حافة الطريق بحرات دمشق والأندلس! اجتازت أشجار الكينا على يمينها وعبرت طريق بيروت ثم عبرت الجسر فوق بردى. مرت بين التكية والمتحف الوطني. أصغت إلى مئات العصافير التي لاتزقزق عادة في هذا الوقت من النهار، لكنها تحتفي الآن بهذا الطقس الرخي المنعش. رفعت رأسها إلى أشجار الكينا تحاول أن تتبين تلك العصافير. وفاجأتها أيضا أسراب السنونو التي تملأ سماء دمشق كل مساء. نظرت إلى ساعتها. هل جنّت العصافير في هذا اليوم وضيّعت أوقات الطيران، أم تحتفي بطقس نيسان وعبق الزنزلخت؟ مقابلها مستشفى الغرباء، المستشفى
    الوطني الذي رأت فيه ابنها معتصما على سرير أبيض مغطى بشرشف عليه بقع الدم. كان زملاؤه يحيطون به. وكانوا في عمره، طلابا مثله، تظاهروا لأجل فلسطين وصرخوا في الشارع كي يطوي السياسيون العرب خلافاتهم، وكيلا يضيعوا وقت الدفاع عنها باجتماعاتهم وخطاباتهم! أحرقت حلقها الغصة وبدا لها أن هذا الألم الذي تخفيه عن نفسها أعمق من ألمها على بهاء. ردّدت لنفسها: نعم، نعم، قتل معتصم في أول العمر. لم يكن في يده حتى حجر! كأنها صارت تمشي في قوة وهي تصعد على ضفة النهر وتنعطف إلى مديرية الشرطة. وكأن الغضب اجتاح روحها الرائقة وأبعد نيسان.


    رأت حشدا من الناس أمام مديرية الشرطة، رجالا ليست بينهم امرأة. ألذلك استطاعت أن تخترقهم كأنهم شقوا لها الطريق، أم تراهم لمحوا هيبتها أو غضبها؟ عندما رفع الشاب الجالس وراء مكتب
    الحسيني نظرته إليها قالت: قل له منور خانم! لم تذكر حتى اسم ابراهيم الحسيني! بقيت واقفة أمامه كأنه تطلب منه أن ينهض فورا. من هذه المرأة التي تأمره؟ من هذه التي تبدو خصلة شقراء على طرف جبينها يزيدها سواد المنديل شقرة؟ ردد لنفسه: ماشاء الله، ماشاء الله! سألها: للتهنئة، أم لترفع طلبا؟ أشارت له بإصبعها: قل له منور خانم! وكأنها عقدت مابين حاجبيها! فنهض ليخبر ابراهيم الحسيني عنها.


    فتح الباب لها، ورأت ابراهيم الحسيني يمشي إليها. انحنى كأنه أراد أن يقبل يدها فسحبتها. أجلسها ثم جلس قربها. لايمكن أن تكون أتت لتهنئه! أتت لتطلب شيئا. قال: ياخالتي، أمرك؟ لاتخطئ ارتباكه. يوم قتل بهاء كان يطرق الباب ويسألها دون أن يدخل: ياخالتي، تحتاجين شيئا؟ ويوم صار يطرق الباب عليها بعد قتل معتصم مكررا السؤال نفسه بدا لها أنه كان يبدو كالمذنب. وكانت تجيبه بالإشارة فقط. تركها ليردّ على التلفون. وماكاد يجلس حتى طلبه تلفون آخر. سألته: سجنتم القوتلي وخالد العظم؟! قل لأصحابك باابني، كأنكم ضربتم الناس على وجوههم! قل لهم لاتصدقوا من يهنئكم اليوم، لأنه سيكسر الجرار وراءكم غدا! استمع إليها. وتذكرت وهي تراه في بذلته أنها حمته ذات يوم من أمه التي همت بأن تضربه. هل تذكر أنها غسلته في حمام بيت أهله؟ وقفت فوقف: ياخالتي لم تشربي قهوتي! ردّت: شربت كثيرا من قهوة أهلك! ونظرت إليه نظرة طويلة.


    لماذا عادت وهي تشعر بالشفقة عليه؟ ألأن مثله سيحمل عبء الخطأ وسيواجه الناس والبلاد؟ ألأن الذين يمدون أيديهم إلى السلطة ليحكموا بلدا ينساقون بمشروعهم، وتستخفّهم أيام النجاح، ويغريهم المهنئون، ويتكاثر عليهم المنافقون، فلايفكرون في أيام الحساب التي لاتذكر فيها غير الأخطاء؟ أم لأنها وهي تراه في بذلته ومكتبه فهمت أن الصبي الذي عرفته انتهى، مات، طوي، وأنها لاتتصل ببقاياه إلا بذكرى بعيدة. لايغير ذلك الحرارة التي قابلها بها! أم لأنها فكرت أيضا بأن مثله يفقدون حياتهم نفسها، عندما يصبحون خدما في مشروع يهرولون فيه النهار والليل؟ أم لأنها شعرت بالحدّ الفاصل بين ذلك البناء والشوارع، بين الدولة والناس؟


    كأنما لمست أشجار الكينا الباسقة كتفيها، وكأنما لم تر بردى وهي تعبره مع أنها توقفت بمقدار غمضة عين على الجسر فوقه. ولم تتذكر أنها تحب هذه المنطقة في دمشق بين التكية والمتحف، وتنقل نظرها بين الكينا والتكية والنهر والحدائق التي تطل من الجانب الآخر على النهر. لاتترك وراءها آخر لحظة رأت فيها معتصما على سريرالمستشفى الوطني، بل تترك وراءها الماضي الذي كانت فيه تزور أهل الحسيني وتحمي ابنهم وتسمع همومهم الصغيرة وتفكر معهم في زواج ابنتهم ودراسة ابنهم. هل تقولين لنفسك يامنور أن حياتنا تنتهي ونحن نعيشها، وأننا نفقدها في كل خطوة نستمتع بها، في كل خطوة يكبر بها أبناؤنا، كأن الحياة هذه الدنيا التي تعبرينها الآن، وتصبح خلفك وأنت تتقدمين فيها! لكن فضيلة الإنسان أنه يستطيع أن يستعيدها بالذكرى!


    مرّ فوقها سرب من السنونو الصاخب وهي تعبر واجهة التجهيز. ألا تلتفتين يامنور إلى هذا البناء الذي درس فيه معتصم؟ إلى هنا وصل مع طلاب الجامعة ليرفده طلاب التجهيز في تلك المظاهرة القاتلة! رفعت رأسها: وراء تلك النافذة كان صفه! ذهب معتصم وبقي البناء، وكأن مهمته أن يستبقي أطياف حياة لاتفنى تجمع الكهول والشباب، وتجمع الأجيال، وبمقدار ماتجمعه من الذاكرة تصبح قطعة من الموزاييك الذي يرسم المدن والزمان.


    لماذا لم يخطر لمنور أن تقصد التجهيز كمن يطلب أن يجالس معتصما! لماذا لم يخطر لها أن تتوقف معه بين الطلاب كأنه يخرج من المدرسة في تلك الفسحة التي تفصلها الحدائق عن بردى، يستمتع مع أصحابه بالكلام، يضحك ثم يمشي معهم على عرض الرصيف والشارع مبطئا في العودة إلى البيت!


    طمأنها ابراهيم الحسيني: لن ندخل الأحلاف العسكرية الأجنبية! قالت له كيلا يشعر بأن ذلك منّة: مكتبك ليس بعيدا كثيرا عن ساحة المرجة التي تشهد ماقدمه الناس للاستقلال!
    من يخطر له أن يعيد الاحتلال بالأحلاف العسكرية سترده البلاد من أولها إلى آخرها! لكن منور تعود مثقلة القلب بتساؤل يحرقها: لماذا تذهب الحياة هكذا، ويضيع نيسان إثر آخر، وشتاء بعد آخر! لماذا قدّر لها أن تفقد زوجها وابنها؟ كانت تتنقل بين قمم سعادتها فلماذا نزلت تلك السكين وقطعتها بالطول وبالعرض؟ هل تمس الآن حزنها كامرأة ترتب بيتها، وتحب زوجها، وتربي أولادها شبرا شبرا؟ هل تمس حقها كامرأة في الحب والأسرة السعيدة؟ قالت لنفسها: ليت بهاء كان شرسا! ليتني كنت غاضبة منه يوم قتل! ليتنا لم نكن كالسمن والعسل! ضمت قبضتها إلى جنبها وهي تمشي. شعرت كأنها تمسك بيد بهاء. وتذكرت عودته من فلسطين يوم سمعت زفّة في عز النهار، وأصوات أهل سوقساروجا الذين حملوه حتى الباب. ميزت يومذاك حتى صوت قفزته على الأرض ووقع قلبها في غيبوبة. أيمكن أن يكون مفقودا، وقد يعود ذات يوم فجأة كما يعود المفقودون؟ وتكون مذكراته التي وصلتها كرسالة من جريح أنقذ.


    شدت قبضتها. إياك يامنور أن تسقطي في الوهم! إياك أن تكوني مثل أم إحسان التي بدأت منذ ذلك اليوم مسارها الطويل بين الصليب الأحمر والأمل باحثة عن الضابط الذي حمل عنك ذات يوم ليلى المريضة على ذراعيه! هل يجب أن تكون حياة بهاء مجسدة بوجوده؟ ألا تشعرين به في غرفتك وبيتك؟ ألا تمدين في الليل ذراعك كأنك تمسكين به؟


    استدارت منور عن المرض الذي ستعاني منه في السر ولن تكتشف سعاد على منور غير ظلاله. ولن تستطيع أن تشفى منه إلا بحوار طويل بينها وبين نفسها، يوم تفحصه فترفض المتعة بالوهم وتميزه من الذكرى. يوم تفهم أن الوعي يجب أن يرسم الحد بين حقها في استبقاء بهاء حيا كشهيد وكمحبوب، وبين موته الحقيقي الذي يفرض أنه ذكرى لاتملك الحق في أن تكون عودة محتملة إلى الحياة. كانت منور في ذلك اليوم في بداية ماستسميه فيما بعد مرضها السريّ.
    HAMS
    HAMS
    مشرف عام الاقسام الرومانسيه
    مشرف عام الاقسام الرومانسيه


    زقم العضويه : 58
    عدد المساهمات : 720
    نقاظ : 6080
    السٌّمعَة : 6
    تاريخ التسجيل : 08/02/2010
    العمر : 31
    الموقع : مصر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف HAMS السبت يوليو 17, 2010 12:25 pm

    تسلم ايدك يا منى

    استمرى
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية السبت يوليو 17, 2010 2:01 pm

    أوكي همس
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية السبت يوليو 17, 2010 2:30 pm


    رفض
    القوتلي والعظم الاستقالة. تمسكا بأنهما شرعيان والانقلاب غير شرعي! دلّلهما حسني الزعيم
    فنقلهما إلى المستشفى العسكري. وأرسل لهما الجرائد التي تمدحه، وجهاز راديو. أضحك عبد
    الرحيم أن القوتلي سأل عندما أدخل إلى المستشفى العسكري: أين العلم السوري؟ ظن أنه
    مايزال رئيس الجمهورية!



    أخيرا
    قبل القوتلي والعظم الاستقالة. وطلب القوتلي الخروج من سورية. رحل إلى مصر. أثنت سعاد
    على غضبه: الحق معه! فليراقب من بُعد ماسيفعل هذا المجنون في البلاد! قالت لها منور
    ساخرة: رئيس جمهورية "يحرد"؟ قالت سعاد: هذا مافهمتِه من سفره؟ لكن ماأعجب
    هذه الدنيا! روى لي عبد الرحيم أن كبار رجال الدولة ودعوه رسميا في مطار المزة. تمنى
    عبد الرحيم له عودة سريعة فأجابه: لن أعود حتى تعود المؤسسات الدستورية، وماأبعد
    ذلك الآن!


    ماأسرع
    ماصار الراديو ضرورة! في الثاني من نيسان أعلن حسني الزعيم للمرأة الحق في التصويت،
    وأعطى لنفسه السلطة التشريعية والتنفيذية. قالت سعاد ساخرة: قسمة عادلة! صار الخصم
    والحكم! فهل تصدقين يامنور خطابه عن العدالة الاجتماعية وتصميمه على التحقيق في الفساد؟!
    تفرجت منور على صوره المنشورة في الجرائد: يجلس في الصف الأول على كرسي خاص، والأوسمة
    على صدره. سألت أختها: متى استحق هذه الأوسمة؟ في حرب فلسطين التي انتصر فيها؟ لا،
    ياحبيبتي! في الجيش الفرنسي عندما كان فيه مع فيشي! وروت لمنور أنه أوصى على عصا الماريشالية
    في باريز! ويقال إنها مرصعة!


    صار
    الزعيم موضوع الأحاديث. وضع على عينه المونوكل. نفخ صدره لتعبر ملامح وجهه عن العظمة.
    أخاف رجال الدين الذين زاروه بمشرحية فعدلوا عما نووا أن يطلبوه. يقال إنه سهر في فندق
    بلودان! لا، تلك الحفلة كانت في نادي الضباط! نقلت الحفلات التي تحتفي به بالراديو.
    وغنت فيها زكية حمدان أو ماري جبران. هذه أم كلثوم الشام! قالت منور: ياللصوت الحلو!
    لكن ماهذا الكلام؟ أهو عن الزعيم؟ "ياحلم.. بل ياأسمر.. ماخلق الله ولامثلك كان
    البشر"! هل يريد هؤلاء العقلاء له الجنون؟ اسمعي! يبدو أنه جُبل "من طينة
    فيها عنبر"! لكن منور صرخت بعد السخرية: لو أعرف من يكتب العرائض وقصائد الشعر
    والأغاني التي تصاغ له! كيف يغلب التزلف للحاكم حق الناس في مراقبته؟ كيف يشعر الناس
    بأنهم دونه، مع أنهم سنده والحَكَم عليه! ألأن الرغبة في الكسب تتقدم على ايمان
    الناس بحقوقهم؟


    - يامنور لاتتعبي رأسي! اسمعي زكية حمدان أو ماري
    جبران، لاأميز بينهما! اسمعيها تقول: خلقتِ جميلة لتعذبينا!


    - لاأضع أحدا فوق أم كلثوم. أتعرفين لماذا؟ لأنها
    لاتترك النهر لتغوص في الساقية!


    - يامنور، يبدو أننا نحن الذين غصنا في الساقية. بعد
    انقلاب حسني الزعيم وصل نوري السعيد إلى دمشق، وطلب وحدة سورية والعراق. قال له السوريون:
    سورية مستقلة والعراق مرتبط بحلف أجنبي! الوحدة مع العراق الآن تعني تجريد سورية من
    استقلالها! يقال إن نوري السعيد رجع غاضبا.
    وماأدراك مانوري السعيد! يعرفه عبد الرحيم. في سنة 36 أتى من العراق واجتمع بالمعتقلين
    الفلسطينيين! بدا كرسول من العرب، لكنه كان رسول الإنكليز! يوم إعدام ضباط ثورة رشيد
    عالي الكيلاني حضر الإعدام ويقال إنه أمر بقصف رقبة فهمي سعيد الذي لم ينجز حبل المشنقة
    إعدامه! روى لي عبد الرحيم أن الجاسوسة الإنكليزية غرترود بل اعتبرته أهم شخصية قريبة
    من الإنكليز! لذلك يامنور، بدأت بعد عودته إلى العراق الحملة على سورية من العراق والأردن.
    فكري متى يحدث ذلك؟ الآن، بعد نكبة فلسطين! ولذلك سافر الزعيم إلى مصر واستقبله فاروق
    في المطار!


    - طمأنني ابراهيم الحسيني. قال: لن نفرط باستقلالنا!


    - صدقته؟


    - لايكذب علي!


    - صدقيه إذن!


    - لاأصدق أحدا!
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية السبت يوليو 17, 2010 2:31 pm




    استعادت
    نفيسة مرات انقلاب حسني الزعيم الذي فاجأها ذات صباح. فقالت لها سعاد مداعبة: كأنك
    ياعمتي تحسبينه من أحداث حياتك! لم تسمح نفيسة بمثل تلك الدعابة فردّت مؤنبة:
    الأحداث العامة أحداث حياتنا الشخصية، ياسعاد خانم، قبل أن تولدي. ألم يكن شنق
    شهداء أيار، وسايكس بيكو، ومعركة ميسلون، والثورة السورية، من حياتنا الشخصية؟ هل
    تستطيعين ياسعاد أن تنفضي حياتنا كما ينفض السجاد، فتقع تلك الأحداث منها كأنها
    ليست من خيوطها؟!



    كررت
    نفيسة أنه لم يخطر لها يوم قصدت منور في صباح انقلاب حسني الزعيم أن الأحداث ستتلاحق
    هكذا. ستقول إنها عرفت بالانقلاب قبل أن يذاع من الراديو. ففي الصباح خرجت مع
    مرجانة لتشتري سلة من الخضار والفواكه. لم تكن ترافق مرجانة إلى السوق إلا في شهر
    آب لتنتقي التين الطازج، والصبارة المزّاوية. لكنها في ذلك الصباح تساءلت لماذا
    تهمل الربيع، شهر المشمش الهندي والعقابية؟ فرافقت مرجانة مبكرة لتعودا قبل أن تشتد
    الشمس. عندما خرجت من سوقساروجا إلى بوابة الصالحية واجهتها المصفحات. هبّ قلبها. حدث
    أمر كبير يامرجانة، كي تأتي المصفحات إلى الأركان! استدارت: فلنقصد سوق العقيبة!
    لكنها رجعت إلى البيت وفتحت الراديو. في الساعة السابعة سمعت البلاغ رقم 1. فقصدت
    بعد ذلك بيت منور. قالت لها: جئت أشرب عندك فنجان قهوة وأطمئن عليك! أدهشت منور
    بزيارتها؟ ربما! فنفيسة ترسل عادة مرجانة لتعلن وقت زيارتها. لاتطلب الإذن، بل تبلّغ
    من تزوره بأنها قادمة. فتقول منور لسعاد: كأن عمتي رئيس جمهورية! وتدافع سعاد عن عمتها:
    مشغولة، لاتطلّ إلا كالبدر! في عمرها لاتزال تقرأ الفواتير وتفكر في التجارة، وتستشير
    ابن الكحال ويستشيرها! لم تتغير! يجد الواحد منا في هذه الدنيا من بقي كما تركه!


    لذلك
    بدا لنفيسة أن زيارتها يومذاك أربكت منور، وبدا لها أن منور تنتظر أن تنقل إليها
    خبرا. قالت نفيسة: كأن الهرجاية فتحت عندك مبكرة! ياسمينتك حلوة، لكنها صارت كلها في
    المشرقة! اتركي عرقين تراهما العين في أرض الدار! تابعتها منور وهي تحوم بالمقدمات،
    وسكبت لها القهوة. الياسمينة ياعمتي تلحق الشمس! ماذا تريدين أن تقولي لي؟! يامنور،
    قبل الفجر سمعتُ رصاصا وعندما شقشق النهار خرجتُ من البيت فرأيت المصفحات في بوابة
    الصالحية عند الأركان. ثم عرفتُ القصة! يبدو أن حسني الزعيم يلعب بالنار وأخشى أن
    يحرقنا!


    صار
    الانقلاب مناسبة للقاء نفيسة بابن الكحال وبمنور وسعاد. روت نفيسة أن منور كادت تقول
    لها فلنشكر الياسمينة التي فتحت لك الطريق لتبوحي بما في قلبك! لكن يبدو أنها سمعت
    البيان الأول من الراديو كما سمعته نفيسة! وتذكرت نفيسة دعاءها: يكسر أيديهم، أخذوا
    خالد العظم.. أخذوا هذا الرجل الذي يجب أن تفخر به بلاده، إلى سجن المزة! فهمت منور
    غضب نفيسة. رأت مالايراه في تلك اللحظة الذين فرحوا بسقوط الفساد. ألم يترك
    القوتلي الحبل على الغارب للتجار؟! يامنور لاتغشّنك الضجة بل افهمي الأمور في هدوء!
    في هذه المسألة القوتلي والعظم على حق! لم يكن القوتلي على حق في طيبته يوم قبل وساطة
    محسن البرازي فأعاد الزعيم إلى الجيش وأعطاه قيادة الشرطة، ثم قيادة الجيش!


    استعادت
    نفيسة قصة السمن الفاسد. ذهب القوتلي مع العظم ليحضرا تجربة السلاح والذخائر التي اشتراها
    الجيش من التجار. أطلقت المدافع في سهل المزة، فلم تنطلق، وطاش ماانطلق منها عن أهدافه.
    يبدو أن القوتلي عرف أن الفساد ليس فقط في الأسلحة بل في تموين الجيش أيضا. فمال مع
    العظم إلى مستودعات الجيش في المزة. فحص الفوضى فيها وطلب أن تفتح تنكة سمن وخمّن أنها
    فاسدة. فطلب أن يقلى له بيض ليجرب طعم السمن! ففاحت رائحة بشعة. ومن منا يخطئ في
    تمييز رائحة السمن العربي من السمن المغشوش! أخذ تنكة سمنة ليحللها. وتسرب الخبر إلى
    الصحافة فكتبت عن ذلك وتعرفين أن مجلس النواب هاج وأن فيصل العسلي هاجم حسني الزعيم.
    لم يهاجم أحد الجيش، بل يثبت ماحدث الغيرة على سلاحه وتموينه. يبدو أن الزعيم يريد
    أن يستر أصحابه فقلب المشكلة وجعلها كأنها بين عسكريين ومدنيين. قالت منور:
    ياعمتي، المشكلة هي نكبة فلسطين! اتهم العسكريون المدنيين بأنهم لم يسلحوا الجيش،
    واتهم المدنيون الجيش بأنه لم يدافع كما يجب عن فلسطين! صحيح، يامنور! لابد أن
    يحدث زلزال بعد نكبة فلسطين! لكن الانقلاب على المجلس والحكومة باب مثل باب جهنم،
    يجب ألا يفتح.


    ستروي
    نفيسة التفاصيل فيما بعد وستستعيد الأحداث. في 30 آذار اجتمع الزعيم بضباط القنيطرة
    وهيجهم ضد الحكومة، وأخذ توقيعاتهم على مذكرة وقدمها للقوتلي كأنه مدافع عن الجيش وكأن
    الحكومة ومجلس النواب ضد الجيش. ولم ينتظر نتائج التحقيق فنظم الانقلاب! لم يحزم القوتلي
    أمره فيسرح الزعيم في اللحظة المناسبة. هكذا حدث الانقلاب وحل الزعيم المجلس النيابي
    وسجن رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، بدلا من محاسبة المتهمين في المحاكم! تنهدت
    نفيسة في تلك الجلسات التي لم يشغلها فيها غير الانقلاب: طار الدستور وطارت الجمهورية!


    انتبهت
    منور منذ صباح الانقلاب إلى ماالتقطته نفيسة. وكادت تقول لها مرة أخرى: ياعمتي، يناسبك
    أن تكوني قائدة حزب! وكتمت ابتسامتها. هل هذا طيف من الأيام الحلوة التي كانت تجمع
    نفيسة ببهاء ومنور تراقبهما؟ كم تهرب منا الأيام مسرعة! في اللحظة التي نستمتع بها
    تبتعد! لكن أليس من حظ الإنسان قدرته على استعادتها!


    بقيت
    نفيسة تراقب الأحداث كمن ينتظر نهايتها. وعندما كانت تعلن لابن الكحال غضبها على الزعيم
    ثم على الحناوي الذي قد تسلم سورية بيديه للعراق، ثم على الشيشكلي يوم جنح في مغامرته،
    لم تكن الشروخ تلمس روحها. وردّدت: مشاريعهم ضعيفة، ولن يصحّ إلا الصحيح! وصارت السخرية
    طريقتها في انتظار نهاية الانقلابات العسكرية.



    في
    تلك الأمسيات نبّه ابن الكحال نفيسة إلى الحوراني. فهم هذا الرجل أن عنصري القوة ضباط
    الجيش الوطنيون، والمثقفون، يسندهم الفلاحون. يرى الحوراني أن تحالفهم يستطيع أن يقرر
    مسار سورية. ماذا يريد؟ حقوق الفلاحين والعدالة الاجتماعية. رفعت نفيسة حاجبيها. كلام
    جديد! قال لها ابن الكحال: الحوراني قوة في حماة. له تاريخ. في سنة 1945 هاجم مع الضابطين
    صلاح وأديب الشيشكلي وبعض القوميين السوريين قلعة حماة وطردوا منها الحامية الفرنسية.
    في تلك السنة أسس الحوراني الحزب العربي الاشتراكي. كي تفهمي علاقته بالضباط تذكري
    أنه اشترك في حرب فلسطين مع أصحابه كمتطوعين مع القاوقجي. بقي على صلة بالضباط. وتذكري
    أنه تطوع مع بعض الضباط للدفاع عن حكومة رشيد عالي الكيلاني في سنة 41. وانتخب في تلك
    السنة نائبا في البارلمان. يقال إن بهيج وخليل كلاس وضباط الكلية العسكرية أصحابه.
    ولهؤلاء يد في انقلاب الزعيم والانقلابات بعده. ويقال إنه هو الذي صاغ بيانات
    الزعيم ثم بيانات الشيشكلي. المشكلة أنه ليس صاحب القرار الحاسم فيها. تلتقي جماعته
    بمشاريع مجموعات أخرى وأفراد فرضوا فيما بعد اتجاه الانقلابات! خطّط بهيج كلاس وأديب
    الشيشكلي والحوراني انقلاب الزعيم. وقاد الشيشكلي المدرعات من قطنا في 30 آذار. فاحتلت
    محطة الإذاعة والقصر ومديرية الشرطة واعتقلت رئيس الوزراء وفيصل العسلي.


    هل
    كان ابن الكحال ينبّه نفيسة إلى سياسيين جدد سيؤثرون في المستقبل، ويؤكد لها ماتبيّنته:
    أن جماعة القوتلي عجزت عن الخروج من زمنها؟! كان يؤمّن لنفيسة المعلومات التي تؤكد
    حدسها ويسند بالحقائق نبوءتها. لتثق بأنه رفيقها وحارس روحها ويقظتها! يقول لنفسه:
    نعم، يانفّوس! نحرس روح المحبوب كي نبرهن على حبنا؟ بل نستقوي بثقته في قواه التي تتجاوز
    رؤية الظاهر وتعتد باستشفاف مالاتراه العيون! نستنهض روحه لتعرف قدراتها الاستثنائية
    كي نسند أنفسنا به! تنظر إليه نفيسة كأنها تسمعه. وتقول لنفسها: ماأطيبه! كان يشعر
    بمسؤوليته عن روح نفيسة في المعبر بين زمن وآخر وقت تغيم النظرة ويضعف الناس، فينساقون
    مع المنتصرين أو يسقطون مع المهزومين. لايريد أبدا أن تشعر نفيسة بأنها تطوى مع عصر
    يطوى! يريدها في واجهة اللحظة الحاضرة والمقبلة، محمّلة بثمار عمرها. وكان يشغل بذلك
    روحه ويملأها، ويوسع حياته. وكأنه بنفيسة يجتاز البوابة بين عالم تجارته المحدود بأسواق
    وفواتير وعلاقات مقتضبة، وعالم نفيسة المبهر بآفاقه الملونة.


    في
    تلك الأيام وضعت نفيسة أمام منور كومة جرائد جمعتها طوال الأسبوع. تفرجي! قلبتها منور
    منتبهة إلى الأريكة الوثيرة التي يجلس عليها الزعيم، والأوسمة التي يزخرف بها صدره،
    والأبهة التي يحب أن يتظاهر بها وهو ينفخ وجهه وذقنه. رأته في بعض الصور بالمونوكل.
    سمعت عن عصا المارشالية التي رصعت بالمجوهرات في باريز ودفعت سورية ثمنها بالفرنكات
    الفرنسية. قالت ساخرة: جنون العظمة! لكن قولي لي ياعمتي، كيف يقبل ناس محترمون أن يجلسوا
    على كراس عادية خلفه كأنهم دونه؟ ردت نفيسة: لاتستخفي بهم! لولاهم لحدثت كارثة!
    لكن ياخوفي من أن يقلده من بعده! فضيلته حتى اليوم أنه لم يسقط في مشروع الوحدة مع
    العراق! لكن هل هذه رغبة أجنبية، أم حرص على الاستقلال؟ الله أعلم!


    استمعت
    نفيسة يومذاك إلى حفلات زكية حمدان وماري جبران التي نقلتها الإذاعة. وقالت منور: تفترض
    الأبهة هذه الحفلات! لكن الزعيم نظم مزادا على قلمه في حفلة في فندق بلودان الكبير!
    آه، كأن اليهود الغرباء غير موجودين، ياعمتي! رحم الله اليوم الذي اجتمع فيه رجال العرب
    في فندق بلودان ليعلنوا أن فلسطين قضية قومية لايملك أحد المساومة فيها! يومذاك أتى
    عبد الرحيم من فلسطين ليحضر المؤتمر وأتت معه
    سعاد!


    هل
    تنبأت سعاد بسقوط الزعيم؟ ذكّرت سعاد نفيسة بأنه سلم أنطون سعادة للبنان فرتبت الحكومة
    اللبنانية لسعادة محاكمة سرية في يوم واحد حكمت عليه بالإعدام ونفذ الحكم. توهم أنطون
    سعادة بأنه سيسقط الحكومة بالهجوم على بعض المخافر اللبنانية، ثم هرب إلى سورية.
    لم يفهم أنه ضعيف كلاجئ ويمكن أن يكون موضوع صفقة! قالت نفيسة: سقط الزعيم لأنه سلم
    من التجأ إليه! ولم يأتنا بعد ذلك السقوط بلبن العصفور! حشد أعداءه وفقد حلفاءه
    ونظم من سيقتله!


    رفعت
    منور نظرها إلى سعاد، كأنها خرجت من "غطيطة" في جبل لبنان: يوقفنا
    الحاكم الفرد لنتأمل أعداءه وأصدقاءه، فشله ونجاحه! وهذا كله وقت ضائع! كفى! لم
    أعد أريد أن أسمع اسمه! لاأريد أن نضيع الوقت في الكلام عنه! لكنها اضطرت أن تسمع
    اسمه يوم قتل مع محسن البرازي. وقالت عندئذ: هذا القتل يفتح باب الانتقام!


    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية السبت يوليو 17, 2010 2:32 pm


    بان
    يومذاك أن الزعيم لم يستغل وظيفته، وأنه دون بيت، دون مال، تحتاج أسرته راتبه التقاعدي!
    لم يكسب غير الأبهة والمنفخة! بعد موته ستسرد نفيسة أعماله الحسنة، كأنها تؤكد
    "لاتجوز على الميت غير الرحمة" مع أنها لن تنسى سيئاته! ساوى بين المرأة
    والرجل في حق الانتخاب، لكنه ابتكر لنا الاستفتاء بدلا من الانتخابات! فك الأوقاف
    الذرية! منع جرّ المرأة إلى بيت الطاعة! أخطأ المسكين في حلمه بأن يوحد اللباس مثل
    أتاتورك! في أيامه القصيرة أنجز احتفالات غنائية وراقصة في نادي الضباط ودور السينما.
    ورقصت النساء الرقص الغربي،
    وغنت زكية حمدان وماري جبران،
    وأقيم مزاد على قلم الزعيم فاشترته التابلاين، كما يقال، وحمل عصى الماريشالية التي
    أوصى عليها في فرنسا مع أن صياغنا أكثر مهارة في الصياغة! وحرر أرملة فوزي الغزي.
    سألتها سعاد: هل قصته معها صحيحة؟ يقال ياسعاد إنه التقى بها وكل منهما سجين، هي لأنها
    اشتركت مع حبيبها في قتل زوجها. وهو لأنه متهم بمال أخذه من دانتز ولم ينفقه على تنظيم
    مقاومة فرنسة الحرة. وعدها بأنه سيطلق سراحها يوم يحكم سورية. وأطلق سراحها! رأيتها
    بعيني تزور ابنتها! طويلة ملفوفة بملاءة سوداء لاتكشف حتى وجهها! سألتها منور:
    ياعمتي، عاد خطر الوحدة مع العراق؟! سيقرر الوفد السوري الذي يزور بغداد الوحدة، فيضيع
    الاستقلال؟ بدت متألمة وغاضبة. وتمنت: ليت بهاء كان موجودا! نظرت إليها نفيسة وكادت
    تقول لها: وماذا يستطيع أن يفعل؟ أنعيده ليعيش مصائب أخرى؟ يكفيه ماعاشه منها!


    قال
    ابن الكحال لنفيسة مداعبا وقت تحدثت عن سيئات الزعيم: نفيسة خانم، وقعت البقرة فكثرت
    السكاكين؟ كمد وجهها. ردت: تلك تفاصيل ياابن الكحال! لكن الرغبة باللقاء بإسرائيليين
    قتلوا أهلنا واحتلوا بلادنا وحرمونا من يافا وعكا وطبرية، جريمة لاتمحوها حسنات! حرموني
    من زيارة قبر أخي يوسف في حيفا، ومن زيارة قبر فاطمة وقدري في طبرية! قتلوا العرب في
    سنة 48 فقط؟ بل ظلوا يقتلونهم منذ استقووا بالانتداب. نسينا أنهم قتلوا قدري؟


    أراد
    ابن الكحال أن يضع حتى تلك الجريمة في مكانها الواسع. كي يبرئ الضابط المقتول من
    الصلة بإسرائيل؟ قال: قطف الزعيم ثمرة أخطاء الزمن. عجز السياسيين، وعجز الجيش غير
    المؤهل لحربٍ بعد الاستقلال، وانحياز الغرب لإسرائيل وفرضها على العرب كقوة عسكرية
    محتلة. لكنه كوم أخطاء كبيرة في عمره القصير. أتى باسم مجموعة وتجاوزها. وقع اتفاقيات
    تمهل المجلس النيابي والسياسيون في توقيعها. وسقط في غرور الحاكم الفرد. قرّب البرازي
    ورمى الحوراني. جمع أعداءه وفقد حلفاءه. ألغى الأحزاب وسجن السياسيين من البعثيين
    إلى حزب الشعب. عادى الدروز والقوميين السوريين والاشتراكيين. ولم يفهم أن العراق اتصل
    ببعض الضباط والسياسيين ومنهم الحناوي وصهره أسعد طلس. كان كمن وضع يده في عش
    الدبابير عندما سرح صديقيّ الحوراني في الجيش، أديب الشيشكلي وبهيج كلاس. فنبه الحوراني،
    كسياسي مطّلع، العسكريين إلى ضرورة العمل وإلا ضاعت الفرصة. نقل الحناوي الآليات المتجهة
    إلى جبل الدروز إلى قطنا لإصلاحها. ومن هناك حولّها إلى الانقلاب.


    وكان
    الانقلاب على الزعيم سهلا. اجتماع في مكتب أمين أبو عساف لبعض الضباط. نظموا اعتقال
    الزعيم من بيته، واعتقال ابراهيم الحسيني آمر الشرطة العسكرية، ورئيس الوزراء محسن
    البرازي، واحتلال الأركان والإذاعة. قاد مريود وأبو منصور الزعيم والبرازي إلى الأركان،
    ثم أخذاهما إلى المزة، وأعدماهما. دفنا في أم الشراطيط على طريق القنيطرة. ونقلهما
    أقرباؤهما فيما بعد إلى مقبرة أخرى. سدد الزعيم والبرازي حسابات كثيرة! سألته
    نفيسة: بالموت؟ يبدو أن الحياة لاتتسع أحيانا لصبر الغاضبين!


    منذ
    انقلاب حسني الزعيم تركت نفيسة صوت الراديو منخفضا من الصباح إلى المساء. تسمعه ولاتسمعه.
    وكانت حكيمة. فمنه سمعت بلاغات انقلاب الحناوي والشيشكلي العسكرية. قالت منور: لم تنزل
    قطرة دم في انقلاب حسني الزعيم. لكن الدم سال في هذا الانقلاب! سألتها نفيسة: ماذا
    تريدين؟ لم يعجبك الزعيم فأزحناه لك! تنهدت منور. ولاحظت نفيسة أن منور صارت تكثر من
    التنهد. لكنها لم تستنتج أنها فقدت الشعور بالأمان. قالت منور: كأن بلادنا في المزاد!
    شمر العرب عن زنودهم وشمر الأجانب عنها! اولئك يريدونها عرشا، وهؤلاء يريدون عودة الانتداب!
    هذا معنى رفض القوتلي والعظم الاستقالة في البداية، وعندما استقالا صاغا استقالته موجهة
    للشعب السوري. دافع الرجلان عن الدستور. ودافع عنه من رفض الاجتماع من النواب. ففشل
    الزعيم في الاستعانة بالسياسيين. كانت البلاد تواجه لأول مرة الخروج على الحياة الدستورية
    التي دفعت الدماء في سبيلها. فحل الزعيم المجلس واندفع في جمع السلطة في قبضته. ولم
    يتميز بصبر السياسيين. يامنور، كثرت عليه الضغوط. تذكري! وصل في 16 نيسان نوري السعيد
    وحدثه، كأنه قوة عظمى، عن أحلاف تضم دول الشرق الأوسط، فكذب الزعيم وقال إنه تسلم أسلحة
    وسيكون القوة الثانية بعد تركيا! رجع نوري السعيد في اليوم التالي إلى بغداد وفي ذلك
    اليوم وصل عزام باشا الذي تكرهه بغداد ليجرف الزعيم بعيدا عن العراق. وفي 21 زار الزعيم
    الملك فاروق في مصر. وفي 26 نيسان أطربنا الزعيم بجنونه فقال: "اعتقد سادة بغداد
    وعمان أني سأقدم لهم تاج سورية على طبق من فضة ولكن خاب فألهم فالجمهورية السورية
    لاتريد سورية كبرى ولاهلالا خصيبا.. قررنا تقديم الأشخاص الذين يجرون اتصالات
    بالحكومة الأردنية أو يسافرون إلى ذلك البلد إلى محكمة عسكرية". وقال إنه لايخشى
    التهديد لأن بريطانيا مع الوضع الراهن وكذلك فرنسا وأمريكا.


    بعد
    الظهر في يوم انقلاب الحناوي أعلنت من الراديو سبعة بلاغات. أهمها أن البلاد يقودها
    مجلس عسكري فيه بهيج كلاس وأمين أبو عساف.. ريثما تشكل حكومة دستورية. وأن المجلس الحربي
    برئاسة سامي الحناوي القائد العام للجيش حاكم الزعيم والبرازي وحكم عليهما بالإعدام
    بالرصاص. والوعد بتسليم الحكم للمدنيين.


    لكن
    على هامان يافرعون؟ أعدم الحناوي والزعيم قبل قرار المجلس الحربي! وصل الخبر أن فضل
    الله أبو منصور صفع الزعيم ولامه لأنه سلم أنطون سعادة للبنانيين. من سيفرض ذات
    يوم كرامة المتهمين والمحكومين بالموت؟ سيبصق على عبد الكريم قاسم جندي من الجنود
    الذين زاد رواتبهم، وسيعرض التلفزيون رجلا شد شعره وهو مقتول! وسيعرف الباحثون أن
    سياسيين أشرفوا على تعذيب منافسيهم، وأن قائدا سياسيا طلب الماء قبيل موته تحت
    التعذيب فشتمه جلاده! وربما سيذكّر ذلك القتل بقتل لومومبا. وسيكون ذلك من الجرائم
    التي ستسجل في أنحاء الأرض!


    رفع
    الحناوي الحظر عن الأحزاب. وأعلن مرسوم أن هاشم الأتاسي رئيس للوزراء مع صلاحيات رئيس
    جمهورية وسلطات تنفيذية وتشريعية، ريثما تعود الحياة النيابية. وضعت الحكومة قانونا
    جديدا للانتخابات أعطى الرجال والنساء حق الانتخاب. عينت الانتخابات في 15 تشرين الثاني
    سنة 949. ظهر رجال حزب الشعب وعادت الدعاية للاتحاد بالعراق. أعلن الحزب الوطني ببيان
    في 29 أيلول أنه مع الوحدة مع العراق. هل حملته الموجة العامة؟ زار الوصي دمشق في
    5 تشرين الأول. تفوق حزب الشعب في الانتخابات وقاطعها الحزب الوطني. برزت مشكلة قَسَم
    رئيس الجمهورية بعد انتخابه: الولاء للجمهورية أم العمل على تحقيق الوحدة العربية..
    يعني مع العراق! في 17 كانون الأول أقرت الجمعية التأسيسية القَسَم لتحقيق الوحدة العربية.
    وحدد يوم 19 كانون الأول لأداء رئيس الجمهورية القَسَم. فبدت البلاد مرة أخرى
    كأنها في عشية انقلاب. اقتُرح على الحناوي اعتقال الضباط المعارضين لحزب الشعب، والاتحاد
    فورا مع العراق. فدعا خمسة من كبارهم إليه ليعتقلهم، فخمّنوا نيته. فرتب تنقلات منها
    نقل أمين أبو عساف ومحمود بنيان. اتصل أكرم الحوراني بأمين أبو عساف في المدرعات، وأفهمه
    الخطر. وكان أكرم ينقل رأي الشيشكلي. في 19 كانون الأول قاد الشيشكلي الانقلاب ودعمه
    البعث وآخرون. سجن الحناوي ثم رحل إلى بيروت حيث سيقتله قريب محسن البرازي، محمد حرشو
    البرازي، في 30 تشرين الأول سنة 1950 في حي المزرعة ببيروت وهو ينتظر الترامواي.


    لو
    سأل طبيب منور: متى شعرت أول مرة بالقرف الذي دفعك إلى قوقعة كقوقعة السلحفاة، لقالت
    يوم 20 تموز! لكنها لن تكون صادقة. فالروح لاتُظلم دون مقدمات المساء. كانت متماسكة
    يوم قابلت ابراهيم الحسيني. دافعت عن القوتلي لأن سعاد طلبت منها ذلك؟ بل لأن المصفحات
    في الشوارع أجفلتها. لم تر سابقا خيلاء القوة العسكرية إلا في أيام الانتداب
    الفرنسي. عرفت كيف اعتقل خالد العظم: كسروا قفل بيته برصاصة، وأخذوه من غرفة نومه بالبيجاما
    حافيا وساقوه إلى سجن المزة. رجل وطني، أنقذ بنفوذه وحكمته دمشق من القصف والخراب يوم
    انسحب الفيشيون ودخل الديغوليون! ألجأ الحكومة إلى بيته في سوقساروجا عندما قصف الجيش
    الفرنسي دمشق! رئيس وزراء يعامل بهذه الفظاظة؟! صار السلاح أقوى من الدستور والبارلمان
    والجمهورية!



    نشر
    اعتقال العظم والقوتلي الوجوم في حي سوقساروجا، ووخز روح منور. مرة أخرى يعامل سوري
    سوريا آخر كما كان يعامله المحتلون! نعم، لعل مرض منور بدأ يومذاك! لكن مقاومتها كانت
    يومذاك قوية! ثم أضافت تفاصيل 137 يوما الذهول والقرف والغضب والأسى والسخرية فأصبحت
    شعورا بالغربة. وصارت منور تتابع الأحداث من خلال غمامة. الزعيم سلطة تشريعية وتنفيذية!
    لكن السوريين يمكنوا أن يصححوا ذلك! أما اتفاقية الهدنة فمن يصححها؟ كان يوم 20 تموز
    يوما فاصلا. فقصدت منور نفيسة كمن يطلب نجدة. وبعد ذلك غاصت في نفسها.


    كانت
    الانتقادات على القوتلي كثيرة: تزوير الانتخابات، وتعديل الدستور لتجديد رئاسته،
    ونهب التجار. وخلف ذلك كانت الاضطرابات قد هزّت البلاد في تشرين الثاني سنة 48 بعد
    نكبة فلسطين، فقابلت حكومة جميل مردم المظاهرات بالرصاص، فقتل شباب منهم ابن منور،
    وأعلنت حالة الطوارئ. واستقال مردم وشكل خالد العظم الوزارة. كانت أمام وزارته
    مباحثات الهدنة مع إسرائيل، والاتفاقيات مع شركات النفط الأمريكية والإنكليزية:
    التابلاين والآي بي سي. وقع مردم الاتفاقيتين بالأحرف الاولى واستقال. وكان العظم
    قد تحفظ عليها كوزير للاقتصاد في وزارة سعد الله الجابري. حدثت عندئذ فضيحة
    الصفقات التي يديرها مسؤول التموين في الجيش.


    بعد
    الانقلاب أنجز الزعيم التوقيع على الاتفاقيتين، ووقّعت الهدنة. هل تحدث الزعيم حقا
    عن رغبته بمقابلة بن غوريون، لكن هذا رأى اللقاء بين وزير خارجيته شاريت ووزير
    الخارجية السوري؟ عرض الزعيم في مجلس الوزراء في أيار سنة 49 إمكانية أن يأتي
    شاريت إلى القنيطرة، فرفض عادل أرسلان ذلك وحرّم على أي موظف في الخارجية اللقاء
    بإسرائيلي. عين الوفد إلى مباحثات الهدنة من فوزي سلو ومحمد ناصر وعفيف البزرة،
    وصلاح الطرزي مستشارا قانونيا. قيل إن الحسيني نقل شاريت في سيارة عسكرية بملابس
    ضابط سوري من جسر بنات يعقوب إلى بلودان ليلتقي بالزعيم. وإن شيخ الخالصة، الذي قتلته
    فيما بعد دورية سورية في الأراضي اللبنانية، توسط لذلك اللقاء. عقدت الهدنة وأصبحت
    الأرض التي يحتلها الجيش السوري أرضا منزوعة السلاح بإشراف دولي!


    لمن
    تشكو منور هذه المصيبة التي لاتستطيع ردّها؟ قالت لنفيسة: ياعمتي، خسرت سورية ماحررته
    من فلسطين! ووقعت اتفاقية التابلاين التي كسبت منها الشركات البريطانية، مع أن بريطانيا
    كسرت ظهرنا في فلسطين! كأن الانقلاب حدث كي ينجز هذه المصائب! من منا لم يكن يحلم
    بتحرير فلسطين من المستوطنين الغرباء؟! وهانحن نعترف بهم بالهدنة! ردّت نفيسة:
    يامنور، هذه ليست رغبتي ورغبتك، هذا أمر مفروض علينا!


    خلال
    تلك الأحداث بدأت منور تغرق في الصمت. حتى بدا لنفيسة أن منور لم تعد تشعر بما
    حولها. تابعتها نفيسة بهدوء طبيب يفحص مريضة لكنه لايستطيع شفاءها. كانت منور تستعيد
    مقابلتها ابراهيم الحسيني، ذلك الشاب الذي عرفته طفلا. وتواجه الأسئلة التي لابت في
    نفسها يومذاك وشغلها عنها الاستقبال الذي خصّها به، والاحترام الذي عبر به عن إخلاصه
    للماضي. تذكرت طرف وجهه المتجهم الذي لاقى به همسة حاجبه، والناس الذين ينتظرون حظهم
    في دخول مكتبه، والمرافقين، السكرتير، أجهزة الهاتف على مكتبه. أمعقول أن يبتعد الحاكم
    إلى هذا الحد عن شعبه؟ ومن هؤلاء المسلحون المنصوبون على بابه؟


    هل
    تبعتها نفيسة في الممرات التي تاهت فيها؟ أرادت أن تقول لها: يامنور، قبل انقلاب حسني
    الزعيم كنا نرى رجال الحكومة منا، لنا عليهم حق التقويم. كانوا من الرجال الذين ألفناهم
    في أيام مقاومة الاحتلال، ومنهم من سجن. لذلك كان أي رجل يشعر بأن من حقه أن يقصد بيت
    القوتلي أو العسلي أو أن يلتقي بسعد الله الجابري في فندق "الاوريان بالاس"
    ويستطيع أن يدخل الهافانا أو البرازيل ويقول رأيه للحوراني أو الأتاسي أو للصحفيين.
    انقلاب حسني الزعيم أنهى ذلك الزمن. ابتعد الحوراني وصار الزعيم سلطة تشريعية وتنفيذية.
    قابل الزعيم رجال السفارات ورجال المخابرات الإنكليز والأمريكيين، وخصّ السفير
    الفرنسي بمعاملة متميزة. وأحيانا استقبل رجال الدين الذين لم يجسروا على الاعتراض
    على مالمسه في قانون الأحوال الشخصية، بعد تمثيليته أمامهم. الزعيم ضعيف لأنه أتى بانقلاب.
    طلب السند في اتفاقية مع العراق لكنه فهم أن لنوري السعيد موّاله، وللوصي عبد
    الإله حلمه بعرش سورية فطلب السند من مصر.


    قالت
    لها: اسمعي، يامنور! أنا وأنت في زمن حائر. تجرفه موجة من نوري السعيد وطموح الوصي
    إلى عرش. وموجة من طموح عبد الله في سورية. وموجة من مصر والسعودية اللتين تعارضان
    الهاشميين. نحن بين أحلام أمريكية وأحلام إنكليزية! أحلام دول تتداخل فيها أحلام الطامعين
    بعروش. هل تظنين أن حزب الشعب بعيد عن هذه الحيرة؟ يردد حزب الشعب حقيقة أعرفها من
    السوق: مصلحة سوق حلب في الموصل والعراق! لكن رجال هذا الحزب يفهمون كره السوريين
    نوري السعيد والوصي! ولابد أنهم يذكرون تطوع السوريين في ثورة الكيلاني سنة 41.
    ليس سياسيو حزب الشعب أغبياء! لكن لعل بعضهم يظن أنه سيأكل الطعم وينجو من السنارة!



    استمعت
    منور إليها جامدة. وأقلق نفيسة أن البريق باهت في عيني منور. أسدلت منور نظرتها إلى
    حضنها. قالت: ياعمتي، يقلقني الناس! انقلبوا إلى مطبلين ومزمرين! كأني كنت أعيش في
    بلد آخر ووصلت الآن من السفر! غضبت نفيسة من خيبة منور: اسمعي، عشتُ أكثر منك وأعرف
    أكثر مما تعرفين من الدنيا! وجد غورو من يسرج نفسه له ويجر عربته بدلا من الخيل. كان
    يراد بتلك المسخرة أن يقال إن دمشق استقبلته ورحبت به وإن رجال ميسلون كقطاع الطرق!
    شجعه الأذلاء على زيارة ضريح صلاح الدين ليقول له هاقد عدنا! لكن ماذا حدث بعد ذلك؟
    أطلق الرصاص على غورو، ولوّعت الثورة المحتلين! تنهدت نفيسة كأنها تعود إلى زمن الثورة:
    قلتم إني كنت أجمع بيانات الثورة كأني قائد عسكري! ربما جمعتها لأني أردت أن أؤكد لنفسي
    أن بلادي لاتستكين!


    سرحت
    نفيسة. وغمرها الأسى. ليتها امرأة ضعيفة كي تطلق دموعها فتستريح! تنهدت. فتلك الأيام
    أيام شبابها، أيضا. أيام حبها خالد آغا الذي أعلنته لنفسها بعد مقتله في ميسلون. شفيت
    من حزنها؟ لايشفى الإنسان أبدا من فقد المحبوب! لكنه يستعيد نفسه. وقد استعادت نفسها
    بعد سنة طويلة، يوم جلست في الأموي وتأملت الفسيفساء واستمعت إلى العصور الطويلة وشعرت
    بأنها عابرة من العابرين الذين حزنوا مثلها. وأمسكت بالروح التي تصوغ منهم مايشبه ذلك
    الموزاييك. لكن نفيسة كانت محظوظة بابن الكحال الذي حرسها من قرب. منور وحيدة، وحيدة!
    دون رجل كابن الكحال يراقب حزنها ويهبّ إليها عندما يتجاوز الأسى الحدّ الذي يرهق الروح
    ويمتنع الشفاء منه. كادت تقول لها اكتشافها: الحزن ضرورة للروح، ينقّيها ويغسلها بدموعه،
    يجعلها مؤهلة للقرب من الآخرين، وينزلها من مرتفع الانتصارات المغرورة، ويمنعها من
    وهم الأقوياء الذين يتصورون أنفسهم عصاة على القهر طول العمر! لكن لكل عاطفة حدودا
    يجب ألا تتجاوزها. هناك قدرنا ومهارتنا، الانسياق في عواطفنا ولجمها! هل تستطيع أن
    توصل إلى منور اكتشافها المتأخر الذي مارسته طول عمرها لكنها لم تفكر به في جملة تضعها
    أمامها؟


    كم
    مرة قالت منور لنفيسة قبل أن تسقط في الصمت: سأسجل ياعمتي يوم العشرين من تموز سنة
    1949 كيوم حزين! تراجعنا فيه عما ربحناه بدم متطوعينا وضباطنا وجنودنا! ياعمتي، كبسنا
    الملح على الجرح وقلنا تقدم السوريون خطوة في أرض فلسطين، ولو خسرنا مدنها العربية!
    ذاق إحسان كم ألماظ القهر في صفد يوم استلمها ساري الفنيش فتنبأ إحسان بسقوطها. ثم
    ضاع إحسان في سمخ. وبقي بهاء في الجليل. ثمن تلك الخطوة إذن دم أعزائنا فكيف يتركها
    حسني الزعيم للصهيونيين؟ اتفاقية الهدنة خيانة! فحصت نفيسة منور بنظرة طويلة. لماذا
    تحمّل روحها هذا المقدار الكبير من الهمّ؟ لكن هل تستطيع أن تلومها؟ سلّم الزعيم لليهود
    مستعمرة مشمارهايردن. فماذا أخذ السوريون مقابل الأرض التي سلمها؟ ياعمتي، هذا يعني
    الاعتراف بإسرائيل التي احتلت بلادنا! فكرت نفيسة في السوريين الذين وقعوها: العقيد
    فوزي سلو، المقدم محمد ناصر، النقيب عفيف البزرة، الحقوقي صلاح الطرزي. هل تتهمهم بالخيانة؟
    لا! أجبرتهم الدول على الهدنة! لكنها تأملت أمرا آخر. فالقرار الذي قد يكون حكمة قد
    يكون خيانة. ينفذه موظفون أو ضباط. فأين الحدود بين الأوامر وبين الموقف الذي يرفضها؟
    أين الحدود بين حق مجموعة أو دول في أن تفرض واقعا على أجيال قادمة تمتنع العودة عنه؟
    وحق المجموعة، الناس، الشعب، في أن يرفضها؟ هل تفكر لأول مرة في أن التوقيع اعتراف
    خطر! يتمهل من يوقع عقد بيع وشراء، أفلا يتمهل من يوقع اتفاقية مع عدو، ألا يستشير
    شعبه؟ ينتخب الناس المجلس والحكومة ليديرا الحياة، لكن القرارات الكبرى تحتاج العودة
    إلى الشعب! فمن عاد إلينا؟ قالت نفيسة في سخرية: انتظري ياحبيبتي! قبل الاستقلال كان
    السياسيون يحتاجون الشعب. أما بعده فهل سألنا جميل مردم رأينا؟ ألم يأت حسني الزعيم
    لأن التجار بلعوا أقوات الناس وسكتت على ذلك الحكومات الوطنية؟


    أية
    دروب عبرتها منور لتقف مقابل هذا الجرح؟ يامنور، كل شيء موقوت بزمنه! لايوجد قفل للزمن!
    إذا حرسنا روحنا من التصدع عشنا حتى أيام الرد! وياحزن من يموت قبله! لكن الاتفاق مع
    شركات النفط الإنكليزية ومرور أنابيب النفط في سورية دون مكسب لنا خطأ كبير من أخطاء
    حسني الزعيم! لم يحترم الزعيم اقتراحات فتحي الصقال التي تضبط الاتفاقية مع التابلاين!
    لا، ياعمتي! هذه اتفاقات تلغى ذات يوم! لكن الإشاعات عن لقاء الزعيم بإسرائيليين عار
    لايمحوه غير رد في مستواه. وأين ذلك الرد والزعيم محاط بالمتزلفين والمداحين!


    ربما
    كانت نفيسة تتفادى أن تلمس أمام منور مارأته نكبة كبرى. أن يجسر ضابط سوري على الحلم
    بلقاء مسوؤلين إسرائيليين. مثل هذا الأمر لايخفى على الناس. تهامسوا في مقهى سوقساروجا:
    قال الزعيم في مجلس وزرائه يريد اليهود مفاوضتنا مباشرة، ويمكن أن يرتب اجتماع بيني
    وبين بن غوريون. وقال لوزير الخارجية لامناص من الاجتماع بشاريت! لم يفهم هذا المجنون
    أن بن غوريون لايلتقي بعربي دون أن تكون التنازلات التي لايملك الزعيم مثلها جاهزة!
    هذا ليس نوري السعيد تطلب منه اتفاقية على الورق! هذا مستوطن خبيث ذو مشروع في فلسطين
    كلها! يقال إن عادل أرسلان حرّم على موظفيه اللقاء بأي إسرائيلي، لكن ابراهيم الحسيني
    نقل شاريت بملابس ضابط سوري في سيارة عسكرية سورية إلى بلودان حيث التقى به الزعيم
    بحضور الحسيني وسعيد حبي وصلاح طرزي! وبعد ذلك عقدت الهدنة في خيمة بين مشمارهايردن
    والجاعونة في 20 تموز! يقال لولا صمود فوزي سلو ومن معه لوقعت الاتفاقية كما أرادها
    الإسرائيليون! قد تغطى الخيانة بعد موتنا بصيغ أخرى. لكن لنعلن في حياتنا أن الاتصال
    بإسرائيل التي طردت الفلسطينيين من أراضيهم وذبحتهم في دير ياسين وسعسع خيانة!


    رطّب
    قلب نفيسة مانقله لها ابن الكحال: لاحق الملازم أكرم طبارة وثلاثة جنود سوريين الجاسوس
    كامل حسين شيخ الخالصة الذي يقال إنه توسط
    بين حسني الزعيم والإسرائيليين. خلال الملاحقة قتلوه في أرض تتداخل فيها بلاد
    الشام، سورية ولبنان وفلسطين. بدت خطوة في أرض لبنانية فسبب ذلك مشكلة. اعتقلوا وأغلقت
    الحدود اللبنانية. انتعشت نفيسة. قالت له: هذا هو الجيش السوري، وليس الزعيم! لكن
    ابن الكحال هز رأسه: تساءلي معي لماذا أراد الزعيم معاهدة دفاع مشترك مع العراق
    قبل مباحثات الهدنة؟ ليقوي موقفه أمام الإسرائيليين! قد ينفي عنه هذا تهمة أنه
    تمنى الاستسلام لإسرائيل! هل سيكون ابن الكحال حيا يوم يكتب الحوراني في مذكراته
    عن امرأة أوصلها إليه كمال جنبلاط، والحوراني مختف في بيروت في بيت سري؟ قالت له
    المرأة إنها زوجة كامل حسين، واقترحت عليه أن يلتقي بإسرائيليين. سألها الحوراني:
    كيف عبرت الحدود؟ فروت له أن رجال الحدود على الجانبين يعرفون من هي ويسهلون
    مرورها. عندئذ خطر للحوراني أن يتصل بالشيشكلي، مع أنه هارب منه، لينبهه إلى خرق
    إسرائيلي يحدث في الأرض العربية!


    لم
    تكن اتفاقية الهدنة صدمة لمنور فقط. ومع ذلك لم تكن كما تصورتها. وسط النكبة التي نزلت
    بفلسطين استطاع السوريون بالبطولة لابالتفوق في السلاح، أن يحتفظوا بقطعة من أرض فلسطين،
    جنوب الحولة، التي اتفق العرب على تحريرها للشعب الفلسطيني. بدأت مباحثات الهدنة في
    12 نيسان، وأصر الوفد السوري على الاحتفاظ بتلك الأرض العربية التي وضعها قرار
    التقسيم في الدولة اليهودية. فاقترح الوسيط الدولي أن تصبح منزوعة السلاح مع جزء مما
    احتله الإسرائيليون. وهكذا أصبحت في اتفاقية الهدنة منطقة منزوعة السلاح، وربط احتلالها
    بإعلان الحرب!


    لذلك
    قالت نفيسة يوم قتل الزعيم: سبب قتله لقاؤه بالإسرائيليين! فردّ ابن الكحال: وهناك
    سبب آخر! نفذ القوميون السوريون قتله انتقاما لقائدهم! وأرادته جماعة العراق! أتى الزعيم
    بانقلاب. وربما لم يكن سهلا أن يصمد في اللقاءات بسفراء دول عظمى يفهمون أنه دون غطاء
    شرعي. تناول منهم رغبتهم في "إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي" وجعل ذلك هدفه.
    لم يتذكر أن العرب لم يخترعوا ذلك الصراع بل اخترعه من احتل أرضهم وطردهم منها!
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية السبت يوليو 17, 2010 2:33 pm


    حضرت
    سعاد بعض لقاءات ابن الكحال بنفيسة ومنور. ولاحظت أن منور تسرح كأنها تصغي إلى
    نفسها أكثر مما تصغي إلى من حولها. لكنها تظهر أنها كالمرأة الشامية التي أكملت
    عمل النهار واستسلمت للمساء.



    تعرف
    سعاد أن المرأة الشامية تزوّق نفسها في المساء لتستقبل الزوار. تغسل عنها بماء الصيف
    البارد روائح الطعام وتعب المطبخ. تختار ملابسها وتتأمل نفسها في المرآة. تمشط شعرها
    الطويل وتغرس فيه وردة حمراء قطفتها من أرض الدار، وتمشي بقبقابها المصدّف على
    رسوم الحجارة البيضاء والسوداء حول بركة الماء. تدفع إلى صدرها حفنة من الياسمين، وتجلس
    قرب البحرة مكشوفة لنسيم المساء ولسماء تتلون بالأزرق المخضر في مكان وبالنيلي في مكان.
    وتستمع إلى رعشة الدوالي وفوح الفل. فيجدها زوارها نضرة كشجرة بعد المطر!


    ولكن
    هل أنتِ مثلها اليوم يامنور؟! لن تغشيني! أتت سعاد في الصباح، لتفحص أختها منور دون
    تزويق المساء. فوجئت بها منور. فقدمت سعاد حجتها: كنت مارة قرب بيتك فقلت لنفسي أطل
    عليك. ماعندي غير دقائق!


    كانت
    منور في تلك الأيام تقاوم هواجسها بالطبخ. فوجدتها سعاد مشغولة بمطبخها ورائحة ورق
    العنب تفوح في البيت. لمن هذا الطعام؟ عندك مدعوون إلى العشاء أو الغداء؟ كان يمكن
    أن أساعدك! ردت منور: جئتِ في وقتك! خذي هذا الصحن من فتة المكدوس! هذا طعام لن تطبخي
    مثله! ليلى لاتحب الباذنجان! وخذي هذا الصحن من البُرك! لن أعطيك غير صحن صغير من ورق
    العنب لأن ليلى تحبه! نقلت سعاد نظرها بين أنواع الأطعمة. كانت صغيرة يوم علّمت أمها
    حواء المهجّرة من طرابلس الغرب الطبخ! وقهرت به حواء حزنها على أهلها وبلادها. فهل
    تلتمس منور هذا الدواء بعد عقود من السنوات؟ ماأعجب الدنيا! سألتها: من سيأكل هذا الطعام
    الطيب؟ ردت منور: في الشام عادة "مساكبة" الجيران! تظن منور أني لاأعرف هذه
    العادة؟! آه أيتها الكاذبة! في الشام تقدم كل جارة صحنا من طعامها للجارة المشغولة
    بالغسيل فتجتمع عندها أنواع من الطعام! ماعملتِه غير ذلك يامنور! عملتِ وليمة لن تذوقي
    منها لقمة!


    دفعت
    سعاد إلى هذه الزيارة في الصباح إشارات منها كلمات ليلى: تجلس منور معي إلى طاولة الأكل
    لكنها لاتأكل! ليلى صادقة! أين حمرة خدي منور، وأين بشرتها المعافاة؟ تحت عينيها زرقة
    توحي بليالي الأرق! لكن كيف تعبر سعاد هذه المسافات الرمادية وهذه الصحاري التي تحصّن
    منور بها نفسها وتبعد بها من يقترب منها، فتذيقه العطش والجوع قبل أن يستطيع أن يقول
    لها كلمة!


    قالت
    منور وهي تلفّ صحن البرك بكيس من الورق الأبيض: في طريقك ناولي هذا الصحن لعمتي نفيسة.
    تحب البُرك! فهمت سعاد إشارة منور: انصرفي! نهضت. لم العتب؟ ألم تقل لمنور إنها لن
    تبقى غير دقائق؟


    انصرفت
    سعاد وبقيت منور بين صحونها. كان بهاء يحب أن تكون الطاولة غنية بصحون المقبلات والمعجنات
    والخضروات بالزيت. يحب البُرك بالجبن، البُرك الرقيقة المنفوخة المذهّبة. كان يثني
    على كل لقمة يذوقها كأنه يعبّر لمنور عن حبه دون حرج. فتفهمه وتكتم ابتسامتها. كان
    يقول لنفيسة: منور كنز، منور كاملة تجمع الجمال والذوق. يعبق كل ماتلمسه، الشراشف معطرة
    بالطيب في خزائنها، الفلّ والياسمين يفوح من ملابسها! ويخيل إليه أن للنظافة رائحة
    عطرة تهفّ عليه كلما فتح الباب ليعبر الممر إلى أرض الدار. تواجهه الأرطاسيا بألوانها
    الزرقاء والصفراء والزهر حيث يجلس في المساء. فيلتفت إلى منور في امتنان: فكرتِ يانوّارة
    حتى في مرمى النظرة؟!


    لكن
    لمن هذا الطعام الذي أعدته؟ للغائب الذي لن يعود؟ عبرت روحها في هذا الصباح بحار الضوء
    وبحار الظلمات. اندفعت في الطبخ وسددت المهارة التي تعلمتها في طرابلس وبيروت وحيفا
    وطبرية ودمشق، والتي تعلمتها من الأتراك الذين تركوا طعامهم في بلاد الشام. وأضافت
    إليها ذوقها واجتهادها. اندفعت مشغولة بعملها. ثم رتبت الصحون على طاولة المطبخ وجلست
    على كرسي مقابلها.


    وضعت
    كأسا صغيرا مقابل المكان الذي كان يجلس فيه بهاء. لمن الكأس؟ لمن لن يشرب منه؟ كثيرا
    ماكان يخيل إليها في هذه الأشهر أن بهاء حي فتخاطبه. تتحدث إليه وتسمعه. وتجد نفسها
    أحيانا تبتسم، وأحيانا تكتم ضحكتها. سألته: لماذا كاد يغضب ابن الكحال منها، على قلة
    غضبه؟ رد: ألم تنتبهي إلى ماقلتِه له؟ كان يتحدث عن رجل شهد بالزور. فتدخلتِ أنتِ وقلت:
    لكن هذا الرجل مستقيم وطيب. فارتعش ابن الكحال: يعني أنا كاذب أم أني لاأفهم؟ آه لم
    تنتبه إلى ذلك. ضحكت، وأخفت ضحكتها بكفها: لم أقصد ذلك يابهاء! يانوارة، كأنك قلت لابن
    الكحال أنت لاتفهم، مع أنه يعرف الرجل الذي ذكره أكثر مما تعرفينه!


    في
    تلك الأيام كان هيجان من الفرح يجتاح منور أحيانا. تهمد بعده كأنها استنفدت فيه قوتها.
    طبخت بسرعة وهوى في ذلك الصباح وأنجزت وليمة فاخرة. فتنتها أنواع الطعام وكأنها قالت
    لبهاء: تفرج! كأننا في بيروت وقد دعوتَ أصحابك! ثم تركت الصحون على طاولة المطبخ، والكأس
    الصغير الذي كان بهاء يحب أن يشرب به وانسحبت إلى غرفتها.


    وجدتها
    ليلى جالسة على السرير تحدق في يديها، غارقة في نفسها. لم تنتبه منور إلى ليلى التي
    فتحت الباب بمفتاحها. ولم تنتبه إليها وهي تمشي في البيت باحثة عنها. رأت ليلى أنواع
    صحون الطعام لكنها لم تجد على الطاولة صحنين لها ولأمها. حدث ذلك لأول مرة في حياتها.
    كانت منور تتلقاها عادة من الباب وتنتظرها حتى تغسل يديها، وتتابع الدقائق التي تخرج
    فيها من الحمام لتجلس إلى الغداء معها. فماذا جرى اليوم؟ مشت إلى أمها بخطوات هادئة.
    كأن منور لم تنتبه إلى ليلى حتى عندما اقتربت منها. فوجئت بها فارتعشت وهبّت واقفة:
    أتيتِ؟ في المطبخ تبينت منور أنها لم تضع صحنين على الطاولة المزينة بأنواع الطعام!
    فساعدتها ليلى كأنها لم تنتبه إلى غياب منور عنها.


    لاحظت
    ليلى أن أمها لا تأكل إلا لقيمات. فصارت تراقبها. وصارت في المساء تقاوم نعاسها فتنهض
    من سريرها بخفة وتحاول أن تلتقط صوتا من هدوء البيت. تراقب باب منور المفتوح على الظلمة.
    لاصوت! فتعود إلى فراشها وتغرق في نومها.


    كانت
    منور في تلك الأيام تشعر بثقل جفنيها فتنهض إلى فراشها. تظن أنها ستغفو مذ تضع رأسها
    على الوسادة. لكنها تنتفض صاحية. وتبدأ صراع الليل. تحاول أن تستعيد النعاس. تحاول
    ألا تتحرك كأنها نائمة. ثم تتقلب في فراشها كمن لايطيق الحر. تضبط حركتها وتهدئ نفسها،
    وتنشغل بالسياحة في ماضيها. وتعود منه فتتذكر التفاصيل التي لم تنتبه إليها، فترتب
    طرف الخزانة الذي نسيته، وترتق الستارة، وتتذكر أنها لم تكمل للفران في الحارة ثمن
    الخبز التنوري. لكنها خلال أرقها لاتشعل الضوء. تستسلم لاضطرابها فتتقلب من جانب إلى
    آخر كأنها تبتعد عن شوكة في فراشها. ثم تحاول أن تتصور أزهارا لتعدها. ثم تسخر من هذه
    الطريقة في إبعاد الأرق. تقول لنفسها لماذا يجب أن أتظاهر بأني لاأعاني من الأرق؟ فلأنهض!
    لكنها تتذكر ليلى فتقول لنفسها: لا، حرام! وتعود إلى الدوران حول أرقها. ثم تنتفض غاضبة:
    لست حرة حتى في الأرق! وتحس بثقل ابنتها المحبوبة.


    لكن
    تلك الأيام لم تكن متماثلة. في البداية كانت تستحضر بهاء. بل كان يحضر بنفسه! تمد ذراعها
    فيخيل إليها أنه يمسك بها وتلمس الشعر على سلاميات أصابعه. تتذكر كلامه ويخيل إليها
    أنها تسمعه. يهبّ قلبها وهو يلمسها. فترفع رأسها وتضعه على ذراعه. تتذكر التفاصيل التي
    عاشتها معه. كيس الفلّ الذي حمله لها في بيروت! الجوارب الحريرية التي اشتراها لها
    بخمس ليرات ذهبية! لوعته في أيام هجرها! تستقدم حتى يوم رأته وهي واقفة على السلم قرب
    عريشة العنب في حيفا، صاعدا الكرمل إلى بيت أبيها. تتذكره في البيت الذي يقع على سور
    طبرية ويطل على البحرة. يتأملها وهي مرتبكة وماء البحرة ينسفح من الشرفة ويبلل السجاد.
    تتذكر اليوم الذي طبخت فيه أول طعام في بيتها، وأول حلوى. أضافت السميد إلى الحليب
    فكان المزيج جامدا فأضافت الحليب، فماع، فأضافت السميد. فشلت فجلست وبكت. وجدها بهاء
    حزينة. قالت له: أريد أن أعود الليلة إلى بيت أبي في حيفا! ماذا جرى؟ خمّن السبب عندما
    مر بالمطبخ. قال: أشتهي يامنور لبنة وخيارا وبندورة! مارأيك في أن نأكل طعاما خفيفا؟



    لم
    تتذكر مااتهمته به في أيام هجرها، حتى جاءت أيام الغضب عليه. من يستطيع أن يلحقها في
    تلك الدروب السرية التي تقطعها في الليل! لاتستطيع هي نفسها أن تعود على الطرقات التي
    تتقاطع هنا وهناك، فبعضها كالأزقة المسدودة في دمشق! كان الصباح يعلن عنها أحيانا بنوبة
    فرح لم تألفها ليلى في أمها. أو بحزن تبدو منور غارقة في أعماقه المظلمة. بقيت إشارة
    وحيدة إلى صحة منور في تلك الأيام هي أنها تحضّر الحليب والشاي وصحون اللبنة والجبنة
    والبيض والمربى والمكدوس فتجدها ليلى جاهزة على طاولة الفطور في الصباح. فتلتقط ليلى
    تلك الإشارة وتطمئن على أمها.


    لكن
    ليلى وجدت نفسها كالتائهة يوم عادت من المدرسة فوجدت أمها جالسة على الفراش جامدة.
    كأنها في منعطف لاطريق بعده. اجتاح ليلى شعور بالخطر. وقتذاك وعت أنها فقدت أباها وأخاها
    وقد تفقد أمها وتصبح وحيدة في الدنيا.


    لاحظت
    المعلمة أسى ليلى في ذلك اليوم بعد عودتها إلى المدرسة بعد الظهر، فاستبقتها: ليلى
    أريدك أن تساعديني بعد الانصراف! بدت هذه العناية من المعلمة سندا لليلى أمام زميلاتها.
    ارتفعت الأصابع: وأنا مستعدة لمساعدتك! لا، أريد ليلى اليوم! دوركن في الأسابيع التالية!
    سنعمل الكاتو معا!


    كانت
    غرفة التدبير المنزلي في ذلك البيت العربي في طرف أرض الدار المزروعة بشجرة وارفة من
    اليوسف أفندي، وبشجرة ليمون. هناك تحتفل التلميذات بتحضير الكاتو والبسكوت. وهناك كانت
    تصفّ اللوحات التي تعرض أحيانا في الدروس. لوحات من الكرتون عليها رسوم أسماك مدهشة
    الألوان سجلت أسماؤها باللغة الفرنسية. عليها رسوم جسم الإنسان ومافيه من شرايين وأعضاء
    مدهشة. عليها أزهار غريبة وأزهار معروفة. أو طيور سجلت أسماؤها أيضا باللغة الفرنسية.



    لكن
    المعلمة لم تذهب مع ليلى إلى تلك الغرفة في طرف أرض الدار. بل أجلستها مقابلها: ليلى
    مابك؟ ابتلعت ليلى ريقها وهربت بنظرتها. تذكرت زيارة معلمات المدرسة لبيتها بعد استشهاد
    أبيها في فلسطين. لم تعانقها معلمتها يومذاك بل شدت يدها بقوة: ياليلى، تعرفين لماذا
    أضع على صدري وردة سوداء؟ قتل أخي في العراق سنة 1941. كان مع المتطوعين الذين هرعوا
    إلى بغداد ليدافعوا عن ثورة رشيد عالي الكيلاني والضباط الأربعة. لذلك كنت الاولى في
    دار المعلمات! أنت ياليلى ابنة شهيد من شهداء فلسطين! بعد اليوم لايمكنك أن تكوني إلا
    الاولى في الصف! فهمتِ؟ هزت ليلى رأسها يومذاك! سألتها المعلمة: ياليلى، نسيتِ اتفاقنا؟
    ذكرنا يومذاك الدروس فقط، لكن المقصود كل شيء، كل شيء! رفعت ليلى نظرتها إلى المعلمة.
    وتذكرت النشيد الذي تعلمته منها في الصف: "حققوا آمال غازي، وحدة تحيي الأمل،
    حققوها بالمواضي، وانجزوها بالعمل"! من هو غازي؟ ملك قتلوه في العراق لأنه كشف
    في إذاعته من قصر الزهور أن الإنكليز يغرسون الصهيونيين في فلسطين! فلسطين التي تصف
    منور بحرها ومدنها! فلسطين التي طردت منها خالتها وأخذ بيتها يهود غرباء، بولونيون
    أو تشيك أو روس! فلسطين التي ترك


    بهاء
    لأجلها ليلى، رغم حبه لها حبا لايقاس به شيء، وبقي هناك! هزّت ليلى رأسها. عانقتها
    المعلمة: ليلى، أنا مثل أمك. إذا احتجت شيئا تذكري أني موجودة! بيتي مقابل المدرسة.
    تعرفينه. زرتني مع التلميذات يوم كنتُ مريضة!


    في
    ذلك المساء تأخرت ليلى عن وقت العودة إلى البيت. لو حدث ذلك في يوم آخر لرأت أمها واقفة
    في النافذة في انتظارها! ولكانت "العصرونية" جاهزة على الطاولة! فواكه أو
    عروسة لبنة فيها ورق النعنع، طيبة، طيبة! لكن
    ليلى وجدت منور جالسة على طرف فراشها تحدق في يديها. وضعت ليلى محفظتها في غرفتها،
    وخلعت صدريتها. تنهدت ومشت إليها. وقفت أمامها وحدقت فيها. انتفضت منور: أتيتِ؟ بقيت
    ليلى واقفة مقابلها. وخيل إليها أنها ترى نقطة ميتة في عيني منور. نعم، هناك موت لم
    يكتمل في عينيها بعد، غياب، نأي، بدأ يقتحم العينين الحيتين الزرقاوين الرماديتين.
    توغلت ليلى في العينين، كأنها تريد أن تمسك بتلك النقطة الميتة وتقبض عليها وترميها.



    في
    أية لحظة صرخت ليلى باكية: يامنور، لاتموتي! لاتموتي! ضربت بكفيها كتفي منور كأنها
    توقظها من موت يقهرها، أو من غياب يجرّها إلى ظلماته. هزّتها: يامنور، لاتموتي! وصل
    صوت ليلى إلى منور عبر تلك الظلمات، وشعرت بكفين صغيرتين تهزانها. تنفست كمن يطلب هواء
    لايجد منه حاجته، وتنهدت مرات كمن ظل يبكي حتى شحّ الهواء في رئتيه. ثم شعرت بقلب ليلى
    يخفق على صدرها بسرعة، بسرعة. فوصلها هول الرعب الذي تشعر به، الرعب الذي لابد أن تكون
    كتمته عن أمها زمنا طويلا. هل شدّتها دقات قلب ليلى، بقوة خيط رفيع من الحرير، فبدأت
    تعود من الطرقات التي تشردت فيها أياما طويلة، وبدأت تخرج من الظلمات التي غرقت فيها،
    وتعود من الغياب الذي بدأ بإغراء استعادة حبيبها المقتول في الجليل، ثم أغرقها في بحر
    الظلمات ففقدت أطياف الحبيب البعيد وفقدت الحقيقة الموجودة أمامها: ابنتها؟! عانقتها
    ليلى بقوة كأنها تريد أن تحتفظ بها، كأنها تريد أن تبعد عنها الموت الذي رأته في مكان
    صغير من عينيها. ستتذكر منور مرات كثيرة حرارة عناق ليلى وقوة ذراعيها! وستظل تسمع
    دقات قلب ليلى على صدرها، الدقات الخائفة التي استعادتها من صحراء التيه الكبرى وسرابها!



    اطمأنت
    ليلى عندما بدأت منور تلمس شعرها وتربّت عليه كما كانت تربّت عليه في الأيام البعيدة.
    وعندما شعرت بأن عناق منور ليس أقل من عناقها لها. عندئذ تركتها وجلست قربها. ثم رأتها
    تهتز إلى الأمام والخلف مرات. ياليلى، يبدو أن الروح تمرض أيضا! ربما كانت روحي مريضة
    طوال هذه الأيام، وربما نسيتك فيها! ربما فهمتُ أني مريضة لكني لم أستطع منع نفسي من
    المرض! سأشفى ياليلى! ليس المرض حقا لكل إنسان! نحن دون هذا الحق ياليلى! قدرنا أن
    نبقى من أول العمر إلى آخره أصحاء! لذلك اقفلي على ماجرى الباب واتركيه بيننا! لاتقولي
    حتى لسعاد أو نفيسة عنه كلمة! لاتخافي علي! سأشفى بهدوء. تحمليني بعض الوقت!


    نظرت
    ليلى إلى عيني منور كأن المرض والصحة هناك. نظرت إليها كطبيب يفحص مريضه، أو كأم تفحص
    ابنتها. لمست بكفها خد منور. نعم، يبدو أن نقطة الموت بدأت تزوغ مبتعدة. هزّت ليلى
    رأسها كمن يقول لمنور: سأنتظر عودتك! سألتها: ماما، هل أحضّر لك عصرونية؟ لمحت ليلى
    طيف ابتسامة على وجه منور. تذكّرها بالعصرونية التي أهملتها؟ نهضت معها: سأشرب ملّيسة
    وتحضّرين لنفسك العصرونية!
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية السبت يوليو 17, 2010 2:34 pm




    لم
    يخفَ على سعاد أن منور تغلق روحها دونها. زارت نفيسة وتحدثت معها عن منور. استمعت إليها
    نفيسة وفكرت في قدر بلاد الشام. ماأحلى هذه البلاد، ماأطيب هواء الأمسيات بعد أيام
    الحر! ماكان أحلى الليالي التي قضتها مع خالد آغا وابن الكحال في الليوان! مع ذلك حكم
    عليها بفقد خالد آغا المقتول في ميسلون. ياسعاد، بماذا يصيب الروح قتل الحبيب؟ يمزقها؟
    يوجعها؟
    يشردها؟ ينزع عنها الأمان! يفقد البيت أنسه،
    ويعذبنا بالمكان الذي بقي لنا من المحبوب، بملابسه التي نحفظها كأنه سيعود ويلبسها،
    بالهواء الذي تركه لنا ولم يعد يشاركنا فيه! تبدو الحياة فراغا بعد فقده، فلانرغب بشيء!
    نفقد بعده حتى الرغبة بالحياة! كأن لم يعد لدينا ماننتظره، ولم يعد لدينا مانتذوقه،
    ومانفاجأ به! لايموت الحبيب فقط، بل يموت بعضنا معه! ثم نبدأ بالشفاء! فنبحث عن سبب
    للحياة. تمر أشهر وربما سنوات ونحن نعيش الحياة كواجب، وكضرورة لمن بقي لنا من الأحياء.
    لم تجتز منور بعد هذه المضائق المظلمة. ماتزال تصارع أعاصيرها! هل نستطيع أن نساعدها؟
    يجب أن تشعر بأننا حولها، وبأننا ننتظرها. هذه امرأة لا تشفى إلا بقرارها. ستجد دواءها
    بنفسها. تعرف منور كل كلمة يمكن أن نواسيها بها! وإذا لم تجده ياعمتي؟ نتركها تضيع
    منا؟ ياسعاد، ذات يوم فقدتُ صديقة عزيزة علي، ضاع عقلها، ضاعت ذاكرتها. ومن كانت؟ امرأة
    شجاعة هرّبتُ معها السلاح للثوار! لذلك يقول الناس: اللهم أحسنْ آخرتنا! ياعمتي، تلمحين
    إلى أن منور ستضيع؟ ياسعاد، منور قوية، لكن دعيها تستنفد حزنها وعتبها. لم تولول عندما
    وصلها خبر موت بهاء! لم تولول يوم قتل معتصم! وطوال أربعين يوما بعد المأتم لم تبك!
    وبعد الأربعين لم تبك! تحتاج قوة خارقة كي تهمل حق الندب والبكاء الذي تركه إرث طويل
    تفيد منه الثاكلات والأرامل! اتركيها الآن تؤدي واجب الحزن على الموتى! سنبقى حولها
    كمن لايعرف بصراعها مع أشباحها. إياك أن تلمسي جرحها! اسمعي كلامي ولاتتمني فقد الأحبة
    حتى لعدوك! ستشفى منور لأن ليلى معها. لاتتركي ليلى، لكن لاتتجسسي على منور بليلى،
    وإلا فقدتهما معا. أمس أرسلت مرجانة إلى منور لتأتي بليلى كي تذوق زنود الست التي تحبها.
    وقبل ذلك طلبت ليلى لتذوق المهلبية. أخذتها مرة إلى الأسواق معي، وجلسنا عند بكداش
    في سوق الحميدية وأكلنا كشك الفقراء وكعكا. ليلى أمانة بهاء وطريقنا إلى منور! مارأيك
    في أن تطلبي من منور أن تذهب معك إلى سوق الحميدية لتنتقي قماش ثوب لابنتك؟ إذا رضيتْ
    سأذهب معكما! تذهبين معنا؟ هل ذلك قليل ياعمتي؟



    من
    خلال رقائق شفافة كضباب جبال لبنان لمحت منور انتباه سعاد إليها، وزيارات ليلى إلى
    نفيسة. والتقطت نظرات سعاد الفاحصة. لكن ذلك مر كما تمر الأطياف من تول الناموسية في
    ليلة مقمرة. تلمحه كظلال بعيدة عنها، وتقول لنفسها: فيما بعد سأفكر فيه، فيما بعد سأفحصه،
    أما الآن فيجب ألا يمنعها عن الانصراف إلى الذهاب والإياب على طرقاتها المعتمة.


    تساءلت
    منور فيما بعد متى حدث ذلك. وقدرت أن مرضها واكب الانقلابات في سورية. لا، لاتستطيع
    أن تحدد البداية بالمسطرة! فيوم ذهبت إلى ابراهيم الحسيني كانت تبدو صحيحة وقوية، لكن
    ألم تنسلّ الدودة السوداء إلى روحها قبل ذلك؟ خلال الصراع بين الاستسلام لفقد عزيزين،
    وبين مقاومة الحزن كواجب نحو حبيبتها الباقية ليلى؟ قالت دهشة: يالعالم الروح الواسع
    والجاف كالصحراء، النديّ المتشابك بالظلال والخضرة كغوطة دمشق! كأن كل مافي الكون في
    الروح، تحتوي عناصره بمقدار ماتتسع، فتستقدم العواصف والزهور والمروج والمياه والجبال
    الجرداء! ستقول لليلى يوم تصبح شابة: حتى شجرة التين وشجرة الزيتون موجودة في روح الإنسان!
    حتى العبق والروائح ونافورة الماء موجودة فيها! لكن أكانت قادرة على معرفة ذلك وهي
    غارقة في سراديب ضيقة تعصر روحها؟


    مع
    ذلك أرّخت منور، فيما بعد، مرضها بالانقلابات العسكرية في سورية! ألأنها كالبلاد، فقدت
    الأمان؟ كانت تسمع مايتناقله الناس عن لعب وزراء القوتلي بالإعاشة وترك الحبل على الغارب
    للتجار. وتعرف أن صاحب مقهى سوقساروجا صار يسمع رواده من أهل الحي "كوانات"
    سلامة الأغواني، فيضحك الجالسون ويرددون: الله، الله، يسلم فمك ياأغواني! فيؤكد لهم
    صاحب المقهى: لاتلائم زمن الحرب فقط، بل زمن مابعد الاستقلال! فوق ذلك من يستطيع ألا
    يسمع هدير نكبة فلسطين في روح الناس؟ بدا اللاجئون الذين كانوا أصحاب أراض وحواكير
    وبيوت كمشردين في خيام نصبت في حديقة المنشية خلف نصب الشهيد المجهول! طردوا بالثياب
    التي عليهم. تركوا وراءهم صورهم، وأوراق الطابو، ووثائق الزواج والشهادات. ووضعوا في
    المدارس والجوامع في دمشق وحلب وحمص. قال بهاء لنفيسة يومذاك: احتلال فلسطين وإعلان
    إسرائيل على أرض عربية نكبة للعرب كلهم! جرح سيبقى مشتعلا طوال القرن إذا لم نوقف هذا
    الظلم العلني! ستدور أحداث القرن كله يانفيسة خانم هناك، كي يتسع الاحتلال ويبلع مابقي
    من فلسطين، وكي يعترف العرب بأن تلك الجريمة شرعية، إذا لم نضع حدا للاحتلال الآن!
    فهل كشف بهاء لمنور نبوءته كما كشفها لنفيسة؟ ففهمت أن اتفاقية الهدنة التي وقعت في
    زمن انقلاب حسني الزعيم مع إسرائيل تعني أن هذا البلد المخترع المفروض على العرب بالقوة
    وبخيمة الاتفاقيات بين الدول العظمى، سيعمق أسسه حتى تتحقق نبوءة بهاء؟ ألم يجرحها،
    كزوجة مقاتل استشهد في الجليل أن يتنازل حسني الزعيم عن أرض فلسطينية حررها السوريون؟
    تذكرت نفيسة أن منور قالت لها في آخر زياراتها: لو انتصروا في فلسطين كنا تحملنا الفساد
    وسرقات التجار! أما أن نتحمل الهزيمة هناك والهزيمة هنا، ويبقى كل شيء كما كان فلا!
    وألف لا!


    هز
    انقلاب حسني الزعيم البلاد. وكان يفترض أن ترحب به منور لأنه أنهى الحكومات التي سددت
    إحداها الرصاص على الطلاب المتظاهرين فقتلت ابنها! لكنها لم تحتفل بانقلاب حسني الزعيم.
    ولم يغشها أنه جمع سياسيين معروفين، وأعلن بالراديو بيانات حلوة! وأن مرافقه هيثم كيلاني
    ومعاونه بهيج كلاس، ووزير الخارجية عادل أرسلان. سمعت القصيدة التي ألقاها أبو ريشة
    في الثامن من أيار في سينما دمشق في عيد جلوس الملك فاروق على العرش وحضره الزعيم.
    وحارت بين أولها وآخرها! قال في مطلعها:


    ولاح
    قائدها المأمول فالتفتت إليه وانطلقت بالشعب
    تأتزر


    وقال في نهايتها:


    ياللرئاسات
    كم غرت مفاتنها وكم كبار على إغرائها صغروا


    ناموا
    على بهرج الدنيا وماعلموا أن الفراش على المصباح
    ينتحر


    لكن
    منور منذ رأت الدبابات في الشوارع، نفرت : مكانها ليس في وسط البلد! هل كانت تدين الزعيم
    الذي استند إلى قوة من القنيطرة وحرض الضباط في الجبهة؟ أكانت تتوقع أن تنزل قوات
    من الجبهة فيما بعد أيضا في انقلاب آخر!


    في
    تلك الأيام صارت المعلمة تقصد أن تظهر عنايتها بليلى. اختارتها كي توصل أوراقا للمديرة.
    اختارتها كي تأتي بلوحات خرائط اوروبا وآسية من غرفة وسائل الايضاح والتدبير المنزلي
    في طرف أرض الدار، وطلبت من ليلى أن ترسم خريطة بلاد الشام. وقدمت لها علبة جميلة من
    الألوان المائية لم تر التلميذات مثلها. كأنها أرادت أن ترسم وهجا حول ليلى يغري التلميذات
    بمزيد من القرب منها! خمّنت المعلمة أن ليلى تعيش أياما صعبة فقررت أن تسندها. وقوّتها
    في أيام مرض أمها. اختارتها لتقرأ مقطعا من الشعر كتبته بخطها. فأنشدت ليلى أمام الصف:




    أيها
    الأنجم التي قد رأينا







    عبرا
    في أفولها كالشموس





    إن هذا
    الأفول كان شروقا







    في دياجير
    طالع منحوس





    وسيأتي
    منه الزمان بسعد







    تنجلي
    منه داجيات النحوس








    قالت
    المعلمة: قال الرصافي هذه القصيدة في ضباط ثورة الكيلاني الذين أعدمهم الإنكليز. لستن
    ملزمات بحفظها، لكن انقلنها إلى دفاتركن، فقد تفكرن فيها ذات يوم! وستعرفن كيف يتصل
    الشعر بالتاريخ.


    خلال
    الفرصة نادتها، أحاطتها بذراعها وقادتها إلى مقعد في باحة صغيرة تطل عليها غرفة
    المعلمات. حكت لها عن أبيها الضابط الذي تطوع ليسند الانتفاضة العراقية ضد
    الإنكليز سنة 41. كانت يومذاك صغيرة، في الحادية عشرة أو الثانية عشرة، تعي وتسجل في
    ذاكرتها لكنها تكتم ما في روحها. ماأثقل الحزن عندما يموت إنسان! لكن ماأعظم الحزن
    عندما تشعر مدينة بأنها ثكلى! هكذا كانت بغداد المهزومة التي رجع إليها الوصي
    الهارب ونوري السعيد والإنكليز. وقبلها هكذا كانت دمشق بعد ميسلون! مدينة حزينة محتلة
    فرضت عليها الغرامات بالليرات الذهبية لأنها قاومت الاحتلال، وفرض عليها تسليم الأسلحة!
    رجع أبي جريحا من بغداد. وقبله بعشرين سنة رجع خالي جريحا من ميسلون، وحكت لي أمي
    عما قدّرت فيما بعد أنه دموع المقهور الذي تكاتفت عليه دول عظمى. لكن كم دام ذلك ياليلى؟
    خمس سنوات بدأت بعدها الثورة! اشترك فيها أخوالي. كان بيتنا في الميدان من البيوت التي
    نسفها المحتلون. فهل تعرفين من ألجأنا؟ المسيحيون في باب توما! تفرق رجال الأسرة يومذاك
    بين عمان وجبل العرب حتى أعلن العفو. فبنينا بيتنا، وقصدنا أن يعاد كما كان. لكننا
    تركناه ولحقنا بأبي إلى العراق. بقينا في بغداد حتى قتل الملك غازي. عندما بدأ في سورية
    جمع التبرعات والأدوية لثورة رشيد عالي الكيلاني تطوع أخي مع جماعة أكرم الحوراني ورحل
    إلى دير الزور ومنها إلى بغداد. قاوم الاحتلال الإنكليزي مع العراقيين. وقتل هناك!
    فتذكرتُ مارواه خالي لأمي عن ميسلون. هل كنتُ بالذكرى أستعيد أخي الذي ابتعدت عنه في
    سنوات فتوتي، وأحاول أن أجد الصلة بينه وبين أبي الذي فتح البيت لاستقبال المهنئين
    ومنعَ العزاء به؟!


    في
    أيام ميسلون كان أبي في الكتيبة مع ضباط عراقيين. ذكر لنا منهم فهمي سعيد وصلاح الدين
    الصباغ. احفظي ياليلى هذه الأسماء التي يدفنها نوري السعيد والإنكليز اليوم. درس اولئك
    الضباط السوريون والعراقيون في أفضل المعاهد العثمانية والألمانية، وجمعهم الجيش العربي.
    كان معهم القاوقجي الذي قاتل فيما بعد في فلسطين. نزل فهمي سعيد في التكية مع مجموعته
    بعد ميسلون. صادف صلاح الدين الصباغ في المرجة نوري السعيد. فطلب منه نوري السعيد أن
    يلحق بمجموعته ليحافظ على الأمن حتى يستلم غورو البلد عندما يدخل في الغد. روى الصباغ
    ذلك لفهمي سعيد متقززا من نوري السعيد الذي استقبل غورو وابتسم له. لحق الصباغ وفهمي
    سعيد وأبي بالقوات الوطنية في حمص. لكنهم أسروا. سجن أبي في قلعة دمشق، وسجن الضابطان
    العراقيان في قلعة أرواد، ثم سلما للإنكليز. اولئك الوطنيون الشجعان أسسوا الجيش العراقي
    ياليلى. لذلك حاولوا أن يسلحوه ويقووه. ولذلك هرّبوا أسلحة الجيش العراقي للثوار الفلسطينيين
    سنة 36، وجهزوا المتطوعين وستروهم حتى تسللوا إلى فلسطين. وكانت فرقتهم من أول الفرق
    التي هاجمها الطيران الإنكليزي في فلسطين.


    ماأكثر
    المعلومات التي ترويها المعلمة! هل تستطيع ليلى أن تحفظها كلها؟ حاولت أن تفهم كل كلمة،
    ووعدت نفسها: سأفكر في هذا فيما بعد. لكن ميسلون التي قرأت عنها في كتب المدرسة أصبحت
    حيّة بحديث المعلمة. وأتى إليها عراقيون وأردنيون. كانت دفاعا عربيا عن دولة عربية
    صغيرة جديدة! ولم تكن متطوعين بسطاء تناولوا ماتيسر من البنادق القديمة وركبوا القطار
    إلى ميسلون! بل كانت ضباطا قديرين تعلموا في أفضل معاهد الدنيا.


    كسب
    العراقيون بالمعاهدة قليلا من السيادة وتخلص الإنكليز من الثورات والتمرد. لكن الإنكليز
    أرادوا أن يدخل العراق الحرب منحازا إليهم. فهل كان يمكن أن ينحاز العراقيون إلى الإنكليز
    الذين غرسوا المستوطنين اليهود في فلسطين وسلحوهم ووهبوهم الأرض الأميرية وحموا مذابحهم
    وطردهم الفلاحين العرب؟ ينحازون إلى الإنكليز الذين أعدموا الثوار الفلسطينيين وحرّموا
    عليهم السكين وسلحوا المستوطنين اليهود؟ أراد الضباط الوطنيون حياد العراق في الحرب،
    فهاجمهم الإنكليز واحتلوا العراق، وكانوا يومذاك مهزومين أمام ألمانيا! كان الوصي قد
    هرب من بغداد بحماية السفير الأمريكي والتجأ إلى بارجة بريطانية. ساعد بعض يهود العراق
    الإنكليز وتجسسوا لهم. نزل الإنكليز في البصرة، وقصفت الطائرات الإنكليزية الجيش العراقي.
    هكذا رجع الاحتلال والوصي ونوري السعيد. ثم أعدم الضباط الوطنيون الذين حلموا بأن يحرروا
    العراق من الانتداب، ثم يحرروا بلاد الشام منه، وينظفوا فلسطين من المستوطنين. العراق
    مهم لفلسطين ياليلى، ولو شوه سمعته في حرب فلسطين من خان العراق والعرب. تذكري أمرا
    يجب ألا تنسيه أبدا مهما تخفّى: ستحاول الدول الكبرى أن تفرض إسرائيل على العرب، وسيرفض
    الوطنيون ذلك دائما، وستجد الدول الكبرى دائما من تعتمد عليه من الضعفاء والأذلاء!
    وسيحكم هذا الصراع حياتنا كلها!


    كنا
    قد عدنا من العراق بعد موت الملك غازي. زارنا العائدون من العراق. وحكوا لنا عن احتلال
    العراق. عن قصف الطائرات الإنكليزية الجيش العراقي. ذكروا لنا أن أخي قتل في الدفاع
    عن بغداد. كان الإنكليز قد نقلوا مجموعة صهيونية من فلسطين إلى العراق لتساعدهم في
    التخريب والاغتيالات والخطف. فقتل العراقيون رئيسها رازييل، ودفنه الإنكليز في احتفال
    عسكري! ودفن العراقيون أخي الذي كان ممن هاجم تلك المجموعة الصهيونية. أترين كيف وصلت
    فلسطين التي قتل فيها أبوك إلى العراق؟ في بلاد الإنكليز كتّاب سأعيرك بعض كتبهم. شكسبير،
    شارلوت برونتي، ديكنز وغيرهم.. لكن المحتلين ليسوا اولئك المثقفين! المحتلون قساة،
    قتلة، ومغرورون! قتلوا الملك فيصل يوم صار ثقيلا عليهم. ثم قتلوا ابنه الملك غازي بحادث
    سيارة. رجع أبي يومذاك من المأتم حزينا. قالوا سقط عمود الكهرباء عليه وهو يقود سيارته
    بسرعة! وماكانت المسافة تتحمل السرعة بين قصر الزهور وإذاعته. بقيت السيارة سليمة!
    أتته الضربة من الخلف حيث جلس رجلان يرافقانه! قتله الإنكليز ونوري السعيد وعبد الإله
    الذي صار وصيا بعد مقتله. قتلوه لأنه كان يتصل بالضباط الوطنيين، ويذيع من محطة قصر
    الزهور تضامنه مع الفلسطينيين. ولأنه أراد أن يضم الكويت التي اقتطعها الإنكليز من
    ساحل العراق ووهبوها لإحدى العشائر. إذا تأملتِ الخريطة ياليلى تبينتِ الظلم الذي قسّم
    العرب.


    لكن
    رجال الانتداب أكثر قسوة من تلك الخطوط. لأنهم بمشاريع وحدة الهلال الخصيب، ومشروع
    سورية الكبرى يريدون سلب السوريين استقلالهم. فيغرسون العداوة بين العرب. سورية اليوم
    بين إغراء المال العراقي والمصالح التجارية التي تربط حلب ببغداد، وبين عبد الله الذي
    استفز شكري القوتلي فطلب عودة سورية إلى الأردن! يرى الملك عبد الله سورية عرشا يحق
    له. كان الوطنيون العرب يدفعون روحهم فداء الوحدة العربية. وصار همّ رجال الانتداب
    والطامحين إلى العروش مدّ المعاهدة التي تقيد العراق والأردن إلى سورية المستقلة.


    دثّرت
    المعلمة ليلى بنبوءاتها. قالت لها إن بغداد ستبدو بعيدة جدا، وسيزيدها السياسيون الذين
    تراكضوا إلى دمشق خلال الانقلابات العسكرية بعدا. يمدون بين دمشق وبغداد الصحاري التي
    لاتستطيع سيارة "نيرن" أن تقطعها. لذلك يجب أن تبقى في ضمائرنا. يجب أن نتذكر
    أن العراقيين ماتوا في سبيل فلسطين، وأنهم دافعوا معنا عن الوطن أمام أول هجوم عسكري
    غربي في عصرنا الحديث في ميسلون. وسجنوا مع الوطنيين في أرواد. يجب أن نتذكر أنهم كانوا
    من أساس الجيش العربي وأنهم أداروا مع السوريين الدولة العربية الاولى في تاريخ بلاد
    الشام الحديث. وأنهم استقبلوا الوطنيين الذين لجأوا إلى العراق، واستقبلوا أمين الحسيني
    وجعلوه واحدا من اللجنة السباعية التي أدارت العراق أيام حكومة رشيد عالي الكيلاني.



    هل
    كانت المعلمة تكشف لليلى حقائق فقط، أم كانت تنشد حبها لبلد عاشت فيه مع رجال الثورة
    العربية وأسرهم، ثم دافع عنه أخوها ودفن فيه؟ هل كانت مسحورة بما يبقى في الذاكرة من
    المدن التي نعيش فيها عندما تصبح بعيدة عصيّة؟ أم كانت تقول الحقيقة التي عرفتها لأنها
    تشعر بواجبها في نقلها إلى أجيال أخرى؟ لأنها ترى أن عملها في التعليم يتجاوز ماتوجزه
    الكتب المدرسية وتكتمه عنها الضرورات السياسية، وضعف الثقة في عقول الفتيان؟ لم تكن
    لديها غير صور على كرتون كأنها بطاقات بريدية على ظهرها اسم "ستديو". صور
    رجال بكوفيات أو فيصلية كالتي يضعها زوج سعاد على رأسه. صور رجال ببذلات وطرابيش، أو
    بعباءات جميلة وكوفيات بيضاء، أو ببذلات عسكرية منفوخة البنطلونات. لم تحدد الصور المدينة،
    فتركت الخيال يرسمها واسعة وممتدة تستطيع ليلى أن تضيف إليها ألوانها. فتتخيل دجلة
    كبحر واسع لأنه أعظم من بردى. نهر تجري فيه القوارب في المساء، وتصدح عليه الأغاني
    منذ قرون الخلفاء، ويسمر على ضفافه الناس ويتنزهون في شارع أبي نواس. حول كل بيت حديقة،
    ياليلى، كالبستان! لابد أن يكون فيها نخيل وحمضيات.


    العراق
    ياليلى بلد شعرائنا القدماء. بلد الخلفاء العباسيين والعلماء ورجال الفلك والطب. بلد
    سامراء والقصور الرائعة في تاريخ العمارة في العالم. بلد قانون حمورابي، أول قوانين
    الدنيا. ومتى أرسل هارون الرشيد إلى شارلمان الساعة؟ وقت كانت اوروبا غارقة في ظلام
    الجهل والفقر! سآخذك ذات يوم لتري مكان الساعة في باب جيرون في جدار الأموي! وسأعطيك
    كتاب ابن بطوطة لتقرئي وصفها، فتسمعي رنين الكرات النحاسية الصفراء في النهار، وترين
    ضوء القنديل الذي يشير إلى الساعة في الليل!


    كان
    هارون الرشيد في صورة الكتاب المدرسي رجلا في مقدمة عمامته ريشة عجيبة قد لاتكون ريشة.
    فهل هو ذلك الرجل العظيم الذي عاش في بغداد؟ ستتسلق ليلى كرسيا لتتناول كتاب ألف ليلة
    وليلة وتقرأه في الصيف، وستتصور بغداد والمدن التي رحل إليها تجار بغداد ومكتشفوها.
    لتعرف العراق الذي حدثتها عنه معلمتها ورسمت نخيله الرشيق. كانت كلمات المعلمة ترتسم
    صورا في خيال ليلى. الملك فيصل نحيل طويل يتميز بالحكمة، والملك غازي شاب متحمس قتل
    في السابعة والعشرين من العمر، ونوري السعيد مكور سمين زائغ العينين خبيث، وصلاح الدين
    الصباغ ضابط رشيق وجميل، وفهمي سعيد أهيف حاد النظرة، والوصي عبد الإله نحيل مخاتل
    ماكر. وبغداد تستند إلى ضفتي دجلة مدثرة بالنخيل الرشيق. تصوري ياليلى غابات من النخيل
    على مدّ العين تصبح قاتمة في البعد! في العراق أفضل أنواع التمور في العالم، وأجمل
    النخيل! يعملون من التمر الدبس والشراب والخل. من التمر أنواع كريمة مدللة، ومنه أنواع
    يصنعون منها الخلّ. من سعف النخيل يحوكون السلال الطرية ويبنون المظلات. شجر النخيل
    كريم ياليلى، ومثله أهل بغداد.


    كانت
    وهي تحكي لليلى عن العراق ترحل فيه في الزمان الذي لاتعرفه هي نفسها، وفي المكان الموجود
    الآن والذي وجد قبلها.


    أصبحت
    للمعلمة صورة أخرى. ماأكثر مارأت ومع ذلك هي شابة ورشيقة وجميلة! أهذا هو سبب الضوء
    الذي يتألق في عينيها عندما تسرح خارج الكتاب المدرسي لتتحدث عن بلاد جميلة وكريمة،
    عن رجل اسمه يوسف العظمة ترك طفلته الصغيرة وزوجته المحبوبة وخرج إلى ميسلون وهو يعرف
    أنه لن يعود منها؟ ماهذه الجيوش الكبرى التي تهاجم بلادا صغيرة ذات تاريخ حضاري عظيم،
    لاتراه بل ترى نفطها وحريرها وموقعها؟ أصبح بهاء، مع أنه أبوها العزيز الذي لامثيل
    له، واحدا من كثيرين قتلوا وسيقتلون في سبيلها. الوطن ليس أرضا فقط، لأنه لايباع ولايشترى
    ولايستبدل. الوطن تاريخ عمره آلاف السنوات نحن لحظة فقط منه مهما تألمنا ومهما فرحنا
    وسجلنا من البطولات. لذلك له هوية ولا يمكن أن تكون فلسطين وطنا للمستوطنين اليهود!
    فالوطن لايهجر كما هجروا أوطانهم الأصلية، ولايشترى كما حاولوا أن يشتروا فلسطين من
    السلطان عبد الحميد، ولايفرض باتفاقيات دولية أو بقوى خارجية كما فرضوه. الوطن يولد
    في ضمائرنا كتاريخ وأرض معا، كذاكرة لاعمر لها يجب أن نضيف إليها مايليق بنا ويجب ألا
    نسيء إليها!


    سألت
    المعلمة ليلى فجأة: لديك مشكلة ياليلى أستطيع أن أساعدك في حلّها؟ جفلت ليلى وانسحبت
    من الصور التي تلحقها كسلحفاة تعود إلى قوقعتها. سمعت صوت أمها وتذكرت كلامها: لاتذكري
    ذلك حتى لسعاد أو نفيسة. هزت رأسها تنفي حاجتها إلى مساعدة هذه المعلمة الحلوة. هل
    يخفى على المعلمة التي أقفلت قلبها وهي في عمر ليلى على حزن وقهر أن ليلى مثلها في
    ذلك العمر، تقفل قلبها بكرامتها؟ هذا ماتمنته لها تماما! لكن قلب الطفلة يجب أن يخفق
    بعواطف أخرى. قررت ألا تمس حزن ليلى بل أن تضع مقابله أفراحا تستحقها فتوتها. وقررت
    رحلة إلى لبنان. ستكون المعلمات مع هذا الصف الذي تحب تلميذاته في باص يخرج إلى لبنان
    في الفجر ويعود في الليل! فرحت ليلى ثم همدت. سألتها المعلمة: ستشتركين في الرحلة يوم
    الجمعة! أطرقت ليلى: كيف أترك أمي وحدها؟ التقطت المعلمة الإشارة إلى مايقلق ليلى.
    قالت: أليس لك أقرباء؟ اطلبي منهم أن يكونوا معها! فكرت ليلى: خالتي سعاد! ستطلب من
    خالتها أن تدعو أمها إلى الغداء؟ قالت المعلمة: ياليلى، أريدك أن تكوني في الرحلة!


    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية السبت يوليو 17, 2010 2:35 pm


    هل حاولت ليلى أن تستعيد أحلام منور بها؟
    لاحظت منور أنها تحمّل ليلى حصة أخيها معتصم من تلك الأحلام وهمست لنفسها: حرام!
    صغيرة! ثم فسرت لنفسها لماذا تريدها أن تتفوق في الدراسة: يجب أن تكون جديرة
    بأبيها وأخيها! وكانت تشعر كأم، بأن الدراسة بوابة واسعة للعمل. وكأن ليلى قصدتها
    هناك لتكمل شفاءها، ففاجأتها بأنها الاولى في صفها.



    عادت من المدرسة في أول حزيران حاملة ورقة فيها
    علاماتها وثناء متنوع الألوان من معلماتها ومديرتها. قالت مبتسمة: أزحتُ الاولى
    وأخذتُ مكانها! سألتها منور: أغضبتِها أم أبقيتِ على صداقتها؟ هزت ليلى كتفيها: لم
    أسألها. لكننا نلعب معا بالطابة في الباحة! كنت الثانية في الصف فصرت الاولى،
    وكانت الاولى فصارت الثانية، فلم الغضب؟


    لكن ليلى أدهشت أمها بالمكافأة التي تطلبها:
    تريد دراجة! بسكليت؟ بسكليت! فهمت منور من إصرار ليلى أنها حلمت بالدراجة زمنا
    طويلا. كيف تفهمها أن الفتاة لاتركب دراجة في الشام، ولو كانت في عمر ليلى؟
    سألتها: هل رأيت في سوقساروجا فتاة تركب دراجة؟ ردت: رأيت فتاة على دراجة قرب
    البارلمان! سألتها منور: فتاة سورية؟ ردت: لاأعرف! لكن هل هي أحسن مني إذا كانت
    أجنبية؟ تركت ليلى أمها دهشة وأغلقت على نفسها الباب، وتظاهرت بأنها نائمة بعد
    الغداء. وكتمت فرحها لأنها شغلت منور!


    عندما شقت منور الباب لتطمئن عليها، شعرت بأنها
    نجحت في شد منور إليها، واندفعت في ذلك. فشكت أمها لنفيسة. استمعت إليها نفيسة وهي
    تحتفي بنجاحها. قدمت لها مربى النارنج المحشو باللوز الذي تحبه: كلي ياحبيبتي!
    كلي! لكل مشكلة حلّ! استندت نفيسة إلى ظهر مقعدها وتأملت ليلى راضية. كأن هذه
    الصبية تعيد مسار نفيسة في طفولتها! ألم تفرض نفيسة على أبيها أن يساويها بأخيها
    في التعليم؟ ألم تتاجر بالحرير وتذهب إلى مزارع التوت راكبة الفرس؟ وفي شبابها ألم
    تختر زواجها وتقرر طلاقها؟ مع ذلك لم تستطع أن تتصور فتاة على الدراجة في
    سوقساروجا. سألتها ليلى: هل أنا دون أي صبي في الحارة؟ ردّت نفيسة: بل أنت أفضل من
    أي صبي في الحي كله! سألتها: تحكمونني إذن لأني أصغر منكم، ولأني دون مال أشتري به
    دراجة؟ مال أبيك وأمك لك ياليلى! لكن.. قاطعتها ليلى: لاأريد مالكم! سأشتغل عندما
    أكبر. لكن لن أكلم أحدا منكم حتى أموت! ابتسمت نفيسة! ماأجمل غضب هذه الصبية!
    ماأحلى كرامتها!


    بحثت نفيسة عن حلّ لمشكلة لم تخطر لها. جلست إلى
    نافذتها وتفرجت على الطريق. وابتسمت عندما خيل إليها أنها ترى ليلى على دراجة!
    قالت لنفسها "ستجعلنا فرجة، مثل كشّاش الحمام"! لكن يالهذه الفرصة التي
    أتت في وقتها! فلتنتقل منور من بيتها ومن الحيّ، ولتبتعد عن أطياف بهاء ومعتصم!
    سيشغلها ذلك عن نفسها! اقترحت نفيسة على منور أن تنتقل إلى بيت من البيوت الجديدة
    التي بنيت في البساتين خلف المستشفى الطلياني. أجفل الاقتراح منور. تترك بيتها
    الجميل الواسع لتعيش في طابق لاترى منه السماء إلا من النافذة؟ لاأرض دار يزهر
    فيها البنفسج وتظلها شجرة الليمون، ولاسطح مفتوح للنجوم والقمر تزينه عريشة العنب،
    ولابحرة ولانافورة؟ تنهدت وهي تتذكر الليل مع بهاء على السطح في فجر بارد، وذات
    ليلة أهداها فيها عقد اللؤلؤ. تذكرت المشرقة التي شربت فيها القهوة معه، واستعادت
    يوم أطلت عليه من النافذة وهو يصطحب ضيفه الثائر الهارب من الحكم بالإعدام في
    فلسطين. تذكرت حتى اليوم الذي نقل فيه بهاء السلاح للثورة كأنه ينقل للبيت مؤونة
    الحطب. فهل تترك أطياف حياتها في هذا البيت الرحب وتهاجر إلى حي جديد لايعرف فيه
    الجار جاره، والله يعلم من هم سكانه؟ كادت تلوم نفيسة. ثم فكرت في الطريق الطويل
    الذي ستقطعه مع ليلى. قالت لها نفيسة: ليلى صبية لن تتسع لها الحارة. تلزمها دنيا!
    لماذا ترك آل القوتلي بيوتهم الواسعة في المدينة القديمة وانتقلوا إلى الصالحية
    والرئيس؟ ولماذا يبني أغنياء الشام بيوتا في الروضة وأبي رمانة؟ يحبون أن يطلوا من
    شرفاتهم على شارع يرون أوله وآخره. يريدون شوارع عريضة. يتحملون لسع الشمس ونفخ
    الريح كي يمدوا نظرهم. هناك يلبسون مايشتهون من الملابس، ولامن رأى ولامن سمع!
    سألتها منور: وأنتِ، ستتركين بيتك؟ تنهدت نفيسة: لن أخرج منه إلا إلى قبري! لكنك
    لست حرة مثلي. اسمعي نصيحتي! لاتنقلي أثاثك. اعملي مثل ابنة أبي الشامات. تركت
    بيتها في القنوات كما هو، وسكنت في الروضة. تعود إلى بيتها في القنوات يوم الجمعة
    وتستقبل فيه أصحابها وجيرانها! لن يكون أثاث البيت الجديد من الصدف والموزاييك!
    ولن يثقل عليك ثمنه!


    هل كانت نفيسة تجد الحلّ لدراجة ليلى ولمرض
    منور. كانت تقدّر أن الحياة مع أطياف المحبين اختيار صعب. تستطيعه نفيسة، ولكن
    لماذا تتحمله منور؟ فلتملأ منور بيتها الجديد بأطياف أخرى، أو فلتتركه أبيض
    الجدران! لتستعد روحها وليكن بهاء لها كمن يطلّ من النافذة. تمنت مرات أن تقول
    لمنور يجب ألا يحتل الموتى حياتنا! يجب ألا يشاركونا الأيام التي استداروا عنها!
    يجب أن يبقوا داخل إطار الصورة وإلا دفعونا إلى الهامش. لمن نترك الحياة التي
    يعجزون عنها ونتفادى لأجلهم أن نعيشها؟ سألت نفيسة نفسها هل يعني هذا أن تقبل
    لمنور الزواج مرة ثانية؟ وأجابت لا، هذا مناقض لمسار عائلتها! لماذا؟ لأن الكرامة
    تفرض علينا ألا نهبط من ذروة صعدنا إليها! لأن مثلنا يطلب من نفسه مالايطلبُ من
    آخرين! زوجة بهاء، الشهيد في الجليل، لاتستطيع أن تضع رجلا آخر في مكانه! ومع ذلك
    بدا ذلك لنفيسة مثل دفن المرأة مع زوجها! لا، لا، هذا خيارنا الذي لم يلزمنا أحد
    به! لكن يجب أن تحمي منور روحها من سطوة الأطياف! وسيساعدها البيت الجديد على
    ذلك!


    عرض "دلاّل" على ابن الكحال عدة بيوت
    جديدة في الروضة والعفيف وآخر الخطّ في المهاجرين وخلف المستشفى الايطالي. اختار
    منها بيتين اقترحهما على منور. فرجّحت الأقرب منهما إلى سوقساروجا. مشت نفيسة معها
    وتفرجت على ذلك البيت. قالت لها: الطريق من الطلياني إلى سوقساروجا نزهة! تقطعينه
    في عشر دقائق!


    أعجب ليلى البيت الجديد لأنه يطل على البساتين.
    وطارت من الفرح عندما صادفت الهداهد تنطّ تحت الأشجار في طرف بستان على حافة
    الطريق. اختارت كراسي خيزران لغرفتها، وخاطت منور لتلك الكراسي قماشا أخضر فيه
    رسوم بيضاء. مقابل نافذتها بساتين مزروعة بالخضار وأشجار التوت والتين والمشمش.
    وساقية يشق منها الفلاحون سواقي صغيرة يروون بها البساتين. تستطيع من شرفتها التي
    تكاد تلامس الطريق أن ترى السماء حتى نهاية بساتين الصالحية أبي جرش الممتدة حتى
    القابون في الغرب، وحتى قاسيون في الشمال. في المساء ستشعر بالبرد بالرغم من حرّ
    حزيران. وستظل تذكر الهداهد التي صادفتها في تلك البساتين. ماأكثر مانادت منور كي
    تتفرج عليها، وماأكثر ماحدثت نفيسة عنها! بدا لها أن أجمل طير رأته هو الهدهد.
    ماأحلى ألوانه، وماأجمل تاجه! جلست لترسمه. فتحت علبة الألوان، واختارت الأقلام
    الساطعة، وملأت عدة أوراق برسوم عصفور يشبه الهدهد لكنه ليس هو. ثم جربت الألوان
    المائية فغطت الطاولة بالفناجين التي تخلط فيها الألوان، ونشرت رسومها المبتلة على
    الكراسي لتجف، وسألت أمها: أي منها يشبهه؟ وظلت تنتظر الهداهد ولاتمل من متابعتها.
    وقالت لنفيسة إنها تحب البيت الجديد لأن الهداهد تحوم حوله.


    لن تفهم ليلى إلا بعد عقود أن ذلك البيت كان من
    الأبنية التي ستقتلع البساتين. وسيصبح الطريق العريض الذي مشت على رصيفه الواسع
    متأملة غيوم الخريف البنفسجية والوردية طريقا مزدحما بالسيارات. ولن تستطيع أن
    تعرف مكان الساقية، ولن ترى هدهدا طوال حياتها الباقية في دمشق.


    صارت منور تخرج إلى بيتها في سوقساروجا عندما
    تخرج ليلى إلى المدرسة. وتعود منه وقت عودتها. لكن البيت الذي لم تعد تفوح فيه
    رائحة الطعام، ولم تعد شراشفه تحمل رسوم جسم إنسان، ولم تعد في فناجينه آثار
    القهوة، يعاقب بكآبته من هجره. مع أن منور بقيت تكنس أوراق الليمون وأزهار
    الياسمين من أرض الدار، وتنظف بحرته وتطلق نافورتها. لكن هل تتجاهل أن الانتقال
    منه عجّل بالإعلان عن صفحات طويت من حياتها؟ وعن فقدها ماكانت تعيش به، والاعتراف
    بأنها صارت معلقة بابنتها! كان مفتاح بيتها في سوقساروجا أكبر من مفتاح بيتها
    الجديد، وأثقل منه، لكنها لم تضق به أبدا.


    هكذا كثرت زياراتها لنفيسة فسألتها: عرفت
    جيرانك؟ عرفتهم! زاروني كما يزور الجار جاره الجديد. بعضهم تجار وبعضهم موظفون!
    بعضهم لطيف ومهذب، وبعضهم ثقيل ومغرور! هذا جواب؟ يبدو أن منور قررت ألا تجيب
    نفيسة! وماذا تقول؟ الناس هنا معروفون بآبائهم وأجدادهم، وهناك كل واحد مقطوع من
    شجرة! صدقي مايقوله عن نفسه أو لاتسأليه من هو! هذه أحياء جديدة غرست أبنيتها ولم
    تغرس بعد تاريخها! قالت منور: حمل أهل سوقساروجا بهاء وأوصلوه على أكتافهم إلى
    البيت يوم عاد من ثورة 36 في فلسطين! هل تذكرين ياعمتي ذلك اليوم؟ لكن ليلى سعيدة
    بالبيت الجديد. الشارع عريض والرصيف واسع. تركب ليلى الدراجة ساعات كل يوم وأتفرج
    عليها من الشرفة. نبهتها نفيسة: لنفكر إذن في سعادة ليلى!


    تعلقت ليلى بالبيت الجديد لأنها وجدت غادة. فتاة
    سمراء لطيفة، أكبر منها بسنوات، في مدرستها نفسها، يرى بيتها من نافذة ليلى. تمر
    غادة بليلى في الصباح وترافقها في طريق المدرسة. وماأيسر أن تتحدث إحداهما مع
    الأخرى بالإشارات من الشرفة! راقبت منور صداقة ليلى وغادة. وخمّنت أن تلك الصداقة
    من العلاقات التي تتعتق مع الزمن وتصبح ذكريات من عمر، وتحتضن أسرار الحب. بل
    قدّرت أن ليلى قد تتحدث عن أمها لغادة. وفكرت في حاجة الإنسان إلى الحنان والتفاهم
    والصداقة. وتساءلت ترى هل ستجد ليلى ذات يوم الرجل الذي تعيش معه كما عاشت هي مع
    بهاء؟ وفهمت عمق علاقة ليلى بغادة عندما سألتها ليلى: مارأيك في اختصار سنوات
    الدراسة لأقدم البكالوريا بسرعة؟ سألتها منور مداعبة: لتدخلي الجامعة مع
    غادة؟


    دللت منور غادة. دعتها إلى الغداء مع سعاد
    وأولادها في بيتها في سوقساروجا. وطلبت لها الإذن من أهلها بالتلفون. وهناك رأت
    مديحة، رفيقة غادة وليلى في المدرسة. استمتع الأولاد بأرض الدار الواسعة التي نقلت
    إليها منور طاولة الطعام، وأعجبهم الطعام والحلوى. صعدوا إلى السطح وتفرجوا على
    الحمام الذي يدور في السماء فوق الحي ويتبع إشارات الكشاش. استمتعوا بالنزول على
    السلالم وبالصعود عليها. ففكرت منور وهي تراقب صخبهم بأن الأسرة الكبيرة ممتعة، مع
    أنها قدّرت أنها لن تستطيع أن تنظف البيت وحدها بعد انصرافهم. لاحظت أن نفيسة
    توقفت قرب غادة وتحدثت معها. قالت لمنور فيما بعد: صديقة ليلى ذكية وطيبة. قررت أن
    تدرس في الجامعة وتصبح صاحبة مخبر! هل عرفتِ من هم أهلها؟ عرفت! أمها معلمة وأبوها
    مدير في وزارة التربية.


    بيت منور الجديد أجمل من بيت سعاد. فهل تجد
    لنفسها مثله؟ شجعتها نفيسة: منطقة جديدة، العرض فيها أكثر من الطلب! لكن ذلك كلفها
    أياما من البحث. فعبد الرحيم رجل لم يعرف طول عمره مافي بيته. آه منه،
    "لاللخل ولاللخردل"! لم يعرف كيف كبر أولاده! انتقلت سعاد إلى بيت قريب
    من بيت منور، أجره مائة ليرة في الشهر. أجر يتحمل دفعه عبد الرحيم الذي أمن له
    القوتلي العمل في القضاء، واستطاع أن يستقبل في بيته أمين الحسيني وشكري القوتلي
    ورياض الصلح وبقية رجال الأمس! هل خطر لمنور أن سعاد تفخر بزوارها عندما فحصت
    البيت الجديد وقالت إنه مناسب لاستقبالهم أكثر من بيتها السابق؟ لكن سعاد قالت
    بصراحة أجفلت منها منور: فتح احتلال فلسطين زمنا وطوى زمنا! هؤلاء الرجال مستمرون
    لأن صفحات الدنيا تطوى ببطء! تأملتها منور: تعجبك شرفتك التي تطل على البساتين؟
    تعجبني! تشربين فيها القهوة، وتتأملين الحياة! لذلك صرت حكيمة، ياسعاد خانم! لكن
    انتبهي، فالحكمة متعبة! كانت منور كمن يتحدث عن نفسه أيضا. فالحياة تبدو كالكفّ
    أمامها وهي جالسة في شرفتها المستديرة المطلة على البساتين والسواقي. تقول لنفسها
    بلد جميل والحياة فيه رائقة ومغرية فلماذا تهرب منا الأفراح؟ سعاد على حق! فتح
    احتلال فلسطين زمنا جديدا حياتنا فيه دون أسوار. غرس احتلال فلسطين بلدا عسكريا
    أقوى من البلاد العربية، يستطيع أن يحرق بقنابله أي بيت فيقطع غفوته على أفراحه أو
    أحلامه! وكأنما بدا بهاء لمنور في نور جديد. أليس من الرجال الذين حاولوا أن
    يردّوا عن العرب ذلك القدر؟!


    تفرجت منور من شرفتها على ليلى التي تركب
    الدراجة في طريق واسع على ضفته البساتين والسواقي. وتساءلت هل تستطيع أن تنجو من
    قدر حكمها منذ كانت طفلة؟ لم تنتبه ليلى إلى هواجس منور، ورفعت يديها عن مقود
    الدراجة فرحة بمهارتها، وتطاير شعرها في الهواء. تبينت منور من مكانها حمرة خدي
    ليلى، وانتبهت إلى غصن زيزفون زينت به
    دراجتها. ظلت ليلى تذهب وتعود في الطريق نفسه، ولاتملّ، مشغولة بفرحها ودراجتها.
    كأنها كانت تطير! كأنها كانت تحتفي بغيوم يوم صاح من الشتاء، لوّنها الغروب بلون
    وردي وبنفسجي ورمادي ومالايخطر بالبال من تدرجاتها. ماأسعد ليلى بدراجتها!
    وبالغيوم والبساتين، وبهذا الطريق الخالي من الناس كأنه فتح لدراجتها! شعرت منور
    بالرضا على بيتها الجديد. هاهي تملأه بذكريات جديدة، ببداية صبا ليلى وأهوائها
    الشفافة. لاتعرف منور أنها ستخشى بعد سنوات هذه البيوت الحديثة التي تطل على
    الشارع وتسهل للحبيب مراقبة من يهواه. وتسهل له أن يرمي رسالة حب من النافذة، وأن
    يتسلق جدار الحديقة ليطل على المحبوبة. وأن يختبئ خلف الدرج وينتظر عودتها. ستتمنى
    منور أن تعيد ليلى إلى بيتها في سوقساروجا الذي يبتعد فيه الباب عن الغرف، ويراقب
    فيه أهل الحارة الغريب العابر، ولايطال فيه المحب نافذة يرمي منها رسالة!


    فرحت منور بطول ليلى من سنة إلى سنة، وبتقدمها
    في صفوف المدرسة. لم يخطر لها أن ذلك يقربها من الأيام التي ستخاف فيها على ليلى
    من حب قلق قد يسبب لها العذاب ولايليق بها. كان الفرح، الذي تعبّر عنه نفيسة وسعاد
    ومنور، بنضج ليلى كفتاة حلوة ذات عينين واسعتين وأهداب طويلة، وقامة هيفاء وشعر
    غزير، وتظهر ليلى أنها غير مبالية به، يقرّب ليلى من مكانها بين الناس الذين سيغريهم
    جمالها وسيقصدونه بالخير والشر. آه يامنور! من يستطيع أن يهرب مما في الدنيا!


    لم يتأخر القلق! كانت البداية انتباه منور إلى
    شاب ينتظر ليلى على بعد خمسين مترا من بيتها. ويتبعها إلى المدرسة، متقدما عليها
    أحيانا ومتأخرا أحيانا. رصدته منور من نافذة إلى أخرى. وشعرت بأن ذلك عدوان على
    ابنتها. هل الفتاة التي تمشي في الطريق مباحة؟ خطر لها أن تخرج وتمسك به. حدثت
    سعاد عن ذلك غاضبة: في المدينة الجديدة لاأحد يعرف هذا الشاب أو غيره لذلك يظن
    نفسه حرا لارقيب عليه! فيتصور أن كل فتاة تمشي في الطريق البعيد عن بيته مباحة له!
    أفهم لماذا لاتحب ليلى أن تنزل معي إلى سوق الحميدية! أنا الكبيرة أسمع غزل الرجال
    وأراهم يكادون يمدون أيديهم إلي! قالت سعاد: في فلسطين ماعندنا مثل هذا! ردّت
    منور: هل تظنين اولئك من أهل الشام؟ بل غرباء سقطوا في سوق الحميدية!


    هل روت سعاد لابنها زياد تلك الحكاية عن ليلى
    والشاب والطريق؟ رأت ليلى ابن خالتها زيادا يستوقف الشاب. احمر وجهها ورجعت إلى
    البيت مسرعة. من قال لك يامنور إني أحتاج من يدافع عني؟ من قال لك إني أحتاج وصيا
    علي؟ لن أستقبل خالتي بعد اليوم ولن أقول لابنها مرحبا! لاينقصني إلا
    "بريانتين" هذا!


    حرمت ليلى أمها من الجلوس إلى الطعام معها،
    وحرمتها من رؤيتها في النهار. أقفلت على نفسها غرفتها ولم تخرج منها إلا في غياب
    منور. خشيت منور أن تطلب مساعدة غادة. وتفادت أن تزورها سعاد. لكن غادة هي التي
    أتت إلى منور. أتعرفين ياخالتي أن ليلى تحمل دواة الحبر دائما معها؟ لماذا؟ لترش
    بها من يتطاول عليها. لايجسر أحد على الاقتراب منها. تحل المشكلة بنظرة حازمة!
    نعم، بنظرة من عينيها الحلوتين! سألتها منور: وهذا الشاب الذي يلحقها، ياغادة؟ هل
    نمنعه ياخالتي من المشي في الطريق؟ لم يقل لها كلمة. لم يتأوه كغيره! لم ينفخ
    الهواء كأنه معذب!


    فكرت منور بكلمات غادة. هل تتفوق هذه الصبية
    عليها بالحكمة؟ حقا، لاتستطيع أن تمنع شابا من المشي في الطريق! ولاأن تعاقبه على
    كلمة لم يقلها! قدّرت منور خطأها: روت لسعاد ماكان يجب أن تسأل ليلى عنه. وجعلت
    الاستفهام شكوى! لم تتنبأ منور بالمستقبل! لم تعرف أنها ستلجأ إلى زياد محاولة
    تخمين مالاتبوح به ليلى لها. لتعرف ماتكتمه شابة من شعور حقها ألا تكشفه لأحد.
    ومايقلق أماً حقها أن تطمئن على ابنتها. سيخطر لمنور في لحظات قلقها أنها لو بقيت
    في بيتها في سوقساروجا لشاركها الحي في حراسة ليلى من الشر. ولما وقع ذلك الواجب
    عليها وحدها. وفي اللحظات التي ستفلت منها ليلى ستتمنى لو أنها رضيت بسلطة
    الأقرباء على بيتها، ولو أنها لم تؤكد لليلى أنها لم تطلب من سعاد أو من ابنها
    حراستها. هل يلجئ العجز الإنسان إلى مارفضه؟ فتعيش منور حتى الزمن الذي ستعود فيه
    الشعوب إلى ماتركته وسجلت أنها تقدمت عليه؟ وترى عودة البلاد الاشتراكية إلى
    الكنائس، ولجوء المسلمين إلى البحث عن الخلاص في تعاليم الدعاة بعد هزيمة الأنظمة
    الوطنية؟ ستتذكر منور غادة. وستتساءل هل نحتاج وقفة تذكرنا بأن لاثبات في الكون؟
    فكيف نحلم بأن نثبّته مرة بمعاييرنا ومرة بأنظمتنا؟ الحق مع سعاد التي رأت أن
    القوتلي والصلح والحسيني شخصيات زمن مضى! ولكن كيف سيكون الزمن الآتي؟ ليتها زرقاء
    اليمامة التي تستشف الغيب! ليتها تقرأ في المندل ماسيجرف الدنيا بعد عقود! ستملّ
    الحياة إذا عرفت صفحاتها القادمة؟ بل ستتذوقها في بطء، وستحتاط من فقد مالاتقدّره
    في وقته!.


    ستتساءل
    منور هل حرست طفولة ليلى ومراهقتها وصباها، فتركتها تستنفد الأهواء الملونة والطيش
    الرائع، ولن تستهويها في كهولتها مراهقة مفقودة تجعلها تزين نفسها بعقود الفتيات،
    أو تهين نفسها بخفة المراهقات؟ أغمضت منور عينيها وأطلقت ليلى، لكنها بقيت كالأسد
    الساهر على بوابات المعابد السورية. راقبت أهواء ليلى منذ الطفولة، وميزت ماتشترك
    فيه مع زميلاتها وماتتميز به. وقالت لنفسها: لكني يجب ألا أكون حارسا ثقيلا! وربما
    زاد من مسؤوليتها أنها أم وأب معا. وخمّنت ليلى أن منور جاهزة دائما للحظة التي
    تطلبها فيها. لكنها شعرت دائما بأنها حرة. وستقول في رضا: استنفدت طفولتي
    ومراهقتي، واستمتعت بأيام المدرسة وأيام الجامعة. لكن هل يُستنفد الشوق إلى
    الحياة؟!



    نهضت
    ليلى وقت الفجر. فتحت باب غرفتها في هدوء. إلى الحمام! فتحت حنفية الماء وتوضأت.
    الماء حتى المرفقين، الوجه، خلف الأذنين، القدمين.. تماما كما تعلمت ذات يوم في
    المدرسة الابتدائية! لكنها أدت الحركات في وجد كأنها تقدس الماء وجسم الإنسان.
    تسللت إلى غرفتها ومدت بساطا صغيرا ووقفت تصلي عارية الرأس والذراعين. أية صلاة
    دون غطاء أبيض للشعر وكمّين طويلين وتنورة تغطي الساقين؟! ومع ذلك بدا لها أنها تخاطب
    الله وحيدة أمامه في الكون وأنه يسمعها.


    طوت
    البساط الصغير، بساطا لينا خفيفا منسوجا من بقايا الأقمشة التي تفتلها وتخيطها النساء.
    ثم بدأت رياضتها. الحركات التي تعلمتها في المدرسة ومن المجلات. وبدأ الضوء يتلامح
    من النافذة، فاقتربت منها وتأملت السماء. ياللونها النيلي الساحر! مرت دواب محملة بالقنب
    إلى الأفران! هسهسة القنب هي الصوت الوحيد في الفجر. لم يستيقظ الناس بعد! لم
    تستيقظ بعد العصافير! تزايد الضوء في السماء بسرعة، ففتحت ليلى الباب وخرجت في
    هدوء. تناولت الدراجة وانطلقت إلى الشارع. ماأعذب نسيم الصباح الذي يقبل عليها
    باردا وهي تسرع بالدراجة في طريق فارغ، كأنه شق لها. لاتوجد سيارات. يندر من يملك
    سيارة، والباصات لم تبدأ رحلاتها بعد. مدينة صغيرة نائمة قلّ فيها المرضى
    والأشقياء فنامت فيها المستشفيات والشرطة. اندفعت ليلى بالدراجة في الطريق بين
    بساتين الصالحية والروضة، ثم في شارع بغداد، عبرته بين أسيجة من الورد الجوري
    والزيزفون وبعض الأبنية الحجرية. توقفت لتقطف غصن زيزفون تزين به الدراجة ثم عبرت
    مقبرة الدحداح وأشجار السرو، عبرت الساقية التي تقابل المقبرة والضريح القديم،
    عبرت الأنهار والسواقي والأرضي شوكي الممشوق الأخضر الداكن في البساتين حول
    اللاييك، وجامع لالا باشا مقابلها، وحديقة صغيرة فيها مرج من العشب. رفعت يديها عن
    مقبضي الدراجة. متوازنة! كادت تصفق فرحا! صادفت عربة محملة بالخضار يجرها حمار
    ويقودها فلاح، قادمة من الغوطة إلى سوق في دمشق. شعرت على رقبتها برفيف ياقة
    قميصها الأبيض القصير الأكمام. وصلت في رحلتها إلى البارلمان مخترقة شارع العابد.
    الدراجة فرحة عظيمة! متعة! لو تستطيع في النهار أن تركب الدراجة كالفتيان في
    المدينة كلها! لا، المشي متعة أيضا على أرصفة واسعة مبلطة، في شوارع هادئة فيها
    قليل من الناس. كم عدد سكان دمشق؟ نصف مليون أم مليون؟


    عادت
    ليلى في الشوارع الفارغة إلى شارعها المزروع بأشجار الزنزلخت. فاح الياسمين من
    أسيجة حدائق الأبنية الحجرية. كم يفوح الياسمين في الفجر! توقفت قرب الرصيف تماما
    وترجلت من الدراجة موردة الخدين. لم يستيقظ الناس بعد، لكن نوافذهم كلها مفتوحة
    لهواء الليل كي يبرّد البيوت. هواء الليل المنعش الرطب في دمشق. في المساء يرتعش
    من البرد في عز الصيف من يعبر البساتين في الصالحية وقرب مدرسة اللاييك، وفي
    الشعلان، وفي الحلبوني. تتداخل البساتين في أحياء دمشق.


    كان
    ذلك يوم الجمعة في أول أيام المدرسة في أيلول. لم تتكاثف الدروس بعد، ولم يستقم
    البرنامج بعد. لازال مقطّعا بساعات "فراغ"! ذلك يناسب أيلول الذي ينسحب
    منه حر الصيف، ويقبل فيه الخريف الذهبي، ويرتعش فيه النسيم المنعش، وتبدأ الغيوم
    جولاتها في السماء، وتفاجأ فيه بالمطر. "أيلول ذيله مبلول". هل كانت
    ليلى في جولتها تحتفي بتباشير الخريف، معشوقها العظيم؟ من لايهوى الذهبيات في دمشق!
    يبهجها أن يهبّ النسيم فينثر فوقها أوراق شجر الزنزلخت الصغيرة. تبطئ الخطى
    وقتذاك. وينسل إلى قلبها شعور بالأسى الرقيق. تمشي وعيناها على الأفق. في الطرقات كلها
    يقابلها الأفق. في دمشق لاتوجد أبنية مرتفعة تغلق النظر. تمشي وتتساءل في أية خطوة
    في أي يوم ستنفتح لها بوابات الحياة أو تجد نفسها فجأة على مطلها. لاتعرف بعد أننا
    مهما عشنا سنظل نصعد إلى مطلات في الحياة ونتبين بأننا كنا قبلها في سفوح! من بعيد
    تبدو ليلى للشاب الذي يتبعها ممشوقة، رشيقة، سريعة الخطوة، مستقيمة الظهر، معتدة
    بنفسها. لاتبطئ لتتفرج على من حولها وتوسع له الفرصة ليتأملها! من يتابعها يشعر
    بأنه يحاول أن يمسك البرق.


    في
    ذلك اليوم قالت لمنور: يستحيل أن أدخل! رجتها منور: سايري، واعملي ماتريدين!
    "أحِب وداري، واكره وواري"! قالت ليلى: ليتفرجن علي كما يتفرجن على قماش
    في السوق؟ لن أتزوج أبدا بهذه الطريقة! قالت منور: تفرجي عليهم كما يتفرجون عليك!
    ادخلي احتراما للناس. من يرغمك على الزواج في هذا العمر؟! لم تفقس عنك البيضة بعد!
    قالت ليلى: سأدخل لكني سأتكلم كما أشتهي! فهل كانت منور تتصور أن ليلى ستقول
    ماقالته؟! لم تجلس ليلى كالبنات المهذبات على المقعد بل جلست على يده. وتحدثت عن
    ايمانها بأن الرجل يجب أن يساعد زوجته. كيف؟ تقشر هي البطاطا ويقليها هو! أو
    العكس! ذهلت النساء المرتبات اللواتي أتين ليخطبنها لابنهن. تابعها على طريق
    المدرسة مرات. أحب عينيها وقامتها. أعجبته رشاقتها. كان هو أيضا مختلفا عن الرجال
    فلم تستهوه الممتلئات والمتثنيات. ابن أسرة دمشقية تقليدية ومعاصرة. تضع النساء
    فيها الإشاربات فقط على رؤوسهن، ينصرفن إلى أعمال البيت ويؤدينها في مهارة وذوق
    حتى الظهر. وفي المساء يرتبن أنفسهن ويخرجن إلى الزيارات. هل يقبلن أن تستخف فتاة
    في هذا العمر بما عشن مخلصات له؟! قالت منور بعد انصرافهن: ليتك لم تدخلي إليهن!
    لم ينقصنا إلا عرض آرائك في الإرث!


    ضحكت
    ليلى: لو لم يكفيهن ماقلته لتحدثت عن رأيي في الإرث! غضبت منور الخبيرة بالحديث مع
    الناس: الناس ليسوا فقط زميلاتك في المدرسة! الناس أشكال وطباع. تعلمي احترامهم
    والحياة معهم. لم أطلب منك الدخول كي تقبلي تلك الخطبة. بل كي تتعلمي الجلوس مع
    الناس في هذه المناسبات وتتعلمي معاملتهم. اعرفي أن العلاقة بالنساء طريق إلى
    العلاقات بالمجتمع! بينهن تعرفين العادات في الأفراح والمآتم والاستقبالات.
    لاتريدين ذلك؟! أنت من جيل مغرور يتوهم أن الحياة تبدأ به! لايفهم أن الظروف التي
    ينعم بها خلقها جيل سابق عليه!


    دخلت
    ليلى غرفتها لتكمل قراءة "رسالة الغفران" للمعري. صعبة! لذلك ستظل تعود
    إليها حتى البكالوريا. مفتونة بشعر المعري عن اللحد الذي يضحك من تزاحم الأضداد،
    وعن الحيرة بين المئذنة والناقوس والبحث عن الحقيقة. عدتها معلمة اللغة العربية
    بحب المعري، مع أن قامتها أكثر نحولا من أن تحمله. ولابأس! فلتتحمل المشقة! فلن
    تسلك السبيل السهل الذي سلكته رفيقتها مديحة. تقرأ مديحة رواية الحرب والسلم، وتتقمص
    ناتاشا، وتسترسل في الانبهار بالكاتب والشخصيات، وتتمنى أن تعرف المزرعة التي عاش
    فيها تولستوي! وماأبعد روسيا! أقرب منها بكثير معرة النعمان!


    تساءلت
    منور: من علم ليلى أن تفكر في قانون الإرث وتتفلسف في قضايا لافائدة من الكلام عليها؟
    تساءلت وهي تعرف أن ليلى لاتحتاج إلى من يعلمها التمرد على الظلم. كم حملت من
    القطط الصغيرة المهجورة إلى البيت وأطعمتها! وكم أثارت هلع أمها بعطفها على الكلاب
    الشاردة الجائعة! كم مرة ضبطتها وهي تتناول الطعام من البيت وتتسلل إلى الكلاب
    والقطط الضالة! ياليلى انتبهي! قد تكون مصابة بالكَلَب! تنهض ليلى مرتعدة عندما
    تسمع إطلاق الرصاص في الليل. وتصرخ غاضبة: يقتلون الكلاب الشاردة! كانت صغيرة يوم
    عادت عابسة من المدرسة. لماذا ياليلى؟ وتسألونني لماذا؟! لأن للذكر مثل حظ
    الأنثيين! غاضبة كأننا مسؤولون عن ذلك! تحاول منور أن تفسر لها الأسباب والظروف،
    فترفع ليلى كفيها وتسد أذنيها بسبابتيها: لاأقبل ذلك! أي مبرر يجعل الصبي أفضل مني
    لأنه صبي؟! ندرس كالصبيان، وسنشتغل مثلهم! ترتعش منور. فليحم الله ضمائر الشباب،
    كيلا ينهار الكون!


    بعد
    ذلك اليوم ستمر سنوات هادئة. ستحمل ليلى بعدها كتبا متنوعة في الصيف. كتبا عن
    الحلاج، وابن عربي، والخيام، وابن طفيل، وابن سينا، وابن رشد، والشعراء الصعاليك وعن
    ثورة الزنج. بعد اوجيني غرانديه، ومدام بوفاري، والبؤساء، والجريمة والعقاب، والمقامر،
    وبطل من هذا الزمان، والمعطف، وآنا كارنينا. وستسألها منور: لماذا كل هذه الكتب؟
    وسترد: استعرتها من مديحة وغادة. وستقول منور: لكن الأدب ليس اختصاصك! وسترد ليلى:
    يجب أن يقرأ هذه الكتب المثقف الجامعي!



    لكن
    ليلى عادت في تلك الأيام من المدرسة وهي تخفي سرا. أكلت مسرعة مع أنها تحب البرك
    وتستمتع بها عادة. جلست إلى مكتبها وانصرفت
    إلى نسخ قصيدة طويلة. يجب أن تعيد القصيدة غدا إلى زميلتها! هكذا انتشرت
    "بهيرة" عبد المعين الملوحي، في مدارس بلاد الشام! وصلت من دمشق إلى
    بيروت وعمان وإربد وحفظها قيس. نسخها الطلاب بأيديهم! نسخت ليلى مطلع القصيدة
    مبهورة بجرأة الشاعر:


    فرغ
    الاله وجنده من قتل زوجتي الصغيرة




    وتجمعوا
    يتضاحكون وقد توارت في حفيرة



    نسخت
    بخط واضح صفحة. وكادت تبكي وهي تنقل عذاب شابين:


    نادته، والآلام تنهشها، حنانك ياحبيبي


    نادته،
    تحسب في اسمه الميمون أدوية الطبيب



    ارتعشت
    ليلى. طبعا، الحق معه في الجنون:



    أحبيبتي
    خرف الاله ومات من زمن بعيد



    فعلام
    تعبده البهائم بالركوع
    وبالسجود



    تنقلت
    ليلى مسرعة بين أبيات القصيدة الطويلة. قرأت، قفزت، عادت إلى النسخ:


    لو ذاق
    ربك لذة الدنيا وأفراح الحياة



    لو
    ذاق طعم القبلة الاولى على شفتي

    فتاة


    لو
    كان يفهم ثورة الأحرار في دنيا العبيد



    هدموا
    السجون وشيدوا مستقبل الشعب السعيد



    لو
    ذاق هذا لم يكن يرضى بقتل الكون ظلما



    لكنه
    ماذاقه.. لكنه .. ماكان يوما



    ليلى
    سعيدة لأنها تشارك زميلاتها بالتمرد وهي تحفظ القصيدة وتنسخها. يلمسها الشباب في تقلبه واندفاعه
    وجرأته. لايتمرد الشاعر فقط على الاله بل يتمرد على يأسه. يتدفق الشباب في الحزن
    نفسه! لايوجد باب مغلق! هذه الحياة هي الحقيقة والأصل! تنسخ في إتقان:


    أبهيرتي
    لاتزعمي أن قد عرفت الحق بعدي



    أنا
    صنته وبذلت في تعليمه عرقي وجهدي




    أبهيرتي
    ماالحق تحت الأرض أو بعد الممات



    الحق
    فوق الأرض في الإنسان في هذي الحياة



    تنهض
    ليلى من كرسيها وتمشي إلى النافذة، وتنظر نحو السماء. وتشعر بحب جارف للحياة،
    برغبة في أن تعيش وتحب وتمشي وترحل وتدرس وتنط إلى السنوات القادمة وتعبرها... إلى
    الحياة.. بعد سنوات، عندما ستنشغل بدروس الطب سيدهشها أنها حفظت تلك
    القصيدة.


    رن
    الهاتف. زميلتها غادة. هي أيضا تنسخ القصيدة. إلى أين وصلتِ؟ أنا وصلت إلى نهايتها:


    ونظل
    رغم الداء رغم الموت نفرح بالوجود



    ونظل
    رغم الداء رغم الموت نحلم بالخلود



    في
    تلك الأيام، جلس قيس تحت شجرة الزيتون ونسخ القصيدة. من مثله يفهم غضب الشاعر على
    المحبوبة التي تركته:


    لاتزعمي
    أن الهوى لم يستطع للموت دفعا



    الحب
    منتصر فهل أحببتني؟ أو كنت أفعى



    موتي
    فمالك في فؤادي غير جرح سوف يشفى



    المارد الجبار
    لايأسى لميت مات
    ضعفا



    من
    مثل قيس الذي يسجل كل ثنية في حياته ويستعيدها في المساء، قادر على فهم الشاعر
    الذي يستعيد سعادته مع المحبوبة المفقودة:


    .. الغرفة
    الزرقاء في هضبات إهدن لاتبالي



    ساءلتها عنا
    وعن أسرار هاتيك
    الليالي



    فوجدتها خرساء
    مدت في غباء ساعديها



    كالمومس
    العمياء من تسمع تخله رنا إليها



    ينط
    قيس إلى القوة التي يطلقها الحزن:



    أبهيرتي
    إني لأسمع صرخة في أرض شعبي



    أنا واجد
    في بعثه سلواي بعد ممات حبي



    عندما
    ستتذكر ليلى بعد سنوات تلك القصيدة التي تناقلتها التلميذات كالأسرار ستنظر في
    شفقة إلى الكلمات التي حفظتها. وستقول لغادة ومديحة: كم يشرّد الغضب الروح! لكن
    غادة ستذكّرها: علمتنا تلك القصيدة كلمات جديدة. فرحنا بها لأنها كانت خارج سياق
    القصائد التي ندرسها. وكان ذلك لنا حرية عظيمة!
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية السبت يوليو 17, 2010 2:36 pm


    طوال
    سنة سكنت مديحة في بيت قريب من بيت ليلى. فصارت تمر بها صباحا وتمشيان معا إلى المدرسة.
    ماأمتع أن تكونا جارتين وفي المدرسة نفسها، وأن تكون المدرسة على بعد دقائق من المشي
    بين بيوت وبساتين وأرصفة عريضة ناعمة يفوح عليها زهر الزنزلخت! تمر مديحة ببيت
    ليلى، تتلفت في الشارع الخالي وتصفّر كالصبيان فتخرج ليلى، وتمشيان وكل منهما تضم إلى
    صدرها كتبها. خيل إليهما أنهما اختارتا قرابة لاتعتمد الدم والعشيرة. كأن الزمن يوهم
    الفتيات والشباب بأن العلاقة العميقة هي علاقة التفاهم والاختيار لاعلاقة الدم والعشيرة.



    كانت
    غرفة الصف التي تدرسان فيها تلك السنة ممتعة: غرفة "الطيارة" في بيت
    عربي في طريق الصالحية، حولها مساحة مظللة بدالية تطل على أرض الدار الواسعة، يعبر
    من درابزينها الضوء ويرمي على الأرض البيضاء ظلال زخارفه. في ذلك الصف في تلك السنة
    سألت معلمة اللغة الإنكليزية طالباتها ماذا يتمنين أن يكن؟ ورأت أن يكتبن ذلك على
    أوراق بيضاء دون أن يذكرن أسماءهن. لماذا؟ كي يتعلمن التعبير في صراحة، ويصغن
    رغباتهن باللغة الإنكليزية. كانت الأجوبة متنوعة، قرأتها المعلمة عليهن ثم أحرقت
    أمامهن الأوراق. كانت ورقة واحدة منها فقط تبوح بأن صاحبتها تتمنى الزواج من رجل
    وسيم وغني تشيّد معه أسرة في بيت واسع. أما الأوراق الباقية فعرضت كلها أمنيات
    بالدراسة العليا، تتزوج صاحباتها بعد التخرج من الجامعة، وبعد علاقة حب وتفاهم
    ومعرفة. أعلنت ورقة واحدة منها أن صاحبتها تتمنى أن تعيش محبوبة ومحترمة في سلام.


    صرفت
    التلميذات ساعة في الكتابة، وصرفن ساعة في الاستماع إلى ماكتبن. قطعت القراءة
    ضحكاتهن ودهشتهن. وخشيت المعلمة أن يصل صوت الصخب والضحك إلى المديرة المتجهمة في
    الطابق الأول، فكانت تهدئهن بين ورقة وأخرى. وفوجئت المعلمة بقطع الكاتو كأن
    التلميذات يحتفلن بذلك الدرس المتميز. وأدهشها أن الكاتو وصل إلى الصف دون أن يفتح
    باب. فاعترفت التلميذات بأنهن يحتفظن بحبل يدلينه إلى الطريق فيضع بائع الكاتو
    مقابل المدرسة ماطلبنه في سلة يربطها بالحبل ويهزه فتعرف التلميذات أن السلة جاهزة
    فيسحبنها!


    ستتذكر
    ليلى ومديحة تلك السنة كأحلى سنوات المدرسة، وستذكر إحداهما الأخرى بها بعد خلافهما في الموقف من الوحدة. في تلك
    السنة كادت مديحة تخرق ماكتبته في ورقتها. أعجب رجل بها وطلب الزواج منها. ونقلت
    ذلك الخبر لليلى. زار أستاذ في الجامعة أمها التي عرفها خلال العمل في الوزارة. دق
    الباب ففتحت مديحة الباب. كانت تقمط شعرها بإشارب وعرقها يكاد يسيل على وجهها، وفي
    يدها الممسحة. أحرجها اللقاء لأنها في قيافة غير مناسبة. وسحره اللقاء لأنه دخل إلى
    عالم حميم لايراه الغريب. ولأنه رأى شابة نضرة متفانية في شغل البيت. قبلته مديحة مبهورة
    بأستاذ أنيق وسيم، ونسيت ماكتبته في ورقة الأمنيات المحروقة.


    بدأت
    ليلى تتفرج على الملابس التي تشتريها مديحة من بيروت. طبعا، تقصد العرائس بيروت! في
    عائلة مديحة ليس الزواج معقدا. تزوجت أختها زميلها في الجامعة، وأكملا دراستهما معا.
    لكن مديحة التي كانت حالمة ورقيقة يومذاك اكتشفت كذبة صغيرة أو كبيرة كذبها عليها خطيبها
    فتركته فورا. حضرت ليلى جمع الملابس والهدايا لإعادتها إلى الخطيب. ورافقت مديحة في
    أيام الفراق الصعبة. يسّر ذلك أنهما انشغلتا بالامتحانات. فهل كانت مديحة تشكرها عندما
    أهدتها كتابا أنيقا طبعت فيه رباعيات الخيام بالإنكليزية والفارسية مع منمنمات ملونة
    لكل قصيدة؟ اشترته مديحة من بيروت. نشر الكتاب ترجمة فيتزجيرالد، فياللكتاب الثمين!
    احتفلتا بالكتاب على الشرفة وشربتا الكاكاو بفنجانين أبيضين كبيرين، وكانت أغنية فيروز
    "سمرا ياأم عيون وساع والتنورة النيلية" تتسرب من الراديو، ومديحة تلبس تنورة
    سوداء مؤطرة بقماش نيلي، والبساتين تتلامح من الشرفة. ماأوسع الدنيا يامديحة!
    خسرتِ رجلا كيلا تحترق أمنيتك التي كتبتها في الورقة!


    سحر
    الخيام ليلى في تلك السنة. قرأته بالانكليزية! كانت معلمتها في المدرسة خريجة الجامعة
    الأمريكية في بيروت، لاتلتزم بالبرامج المقررة، فتقدم لطالباتها روايات إميلي
    برونتي وجين اوستن. صعبة؟ استخدمن القاموس ولنفسر الصعب معا! قرأت مديحة وليلى
    مرتفعات وذرينغ وغيرها من الروايات، وقالتا هذا هو برنامجنا المدرسي. وغلب حبهما
    المعلمة صعوبة النصوص.


    انصرفت
    ليلى إلى الخيام. في أول العمر يسحر حب الحياة في الرباعيات. لم تكن ليلى ذاقت الخمر،
    فبدت الخمر رمزا من رموز حب الحياة. المستقبل ملء الفؤاد، لذلك بدت اللامبالاة به في
    الرباعيات رمزا إلى تقديس البرهة الحاضرة. حفظت رباعيتين أحبتهما. وسيدهشها بعد
    عقود أن تعرف أن قيسا أحبهما أيضا! فقرأهما لها بعد أربعين سنة وهو يروي لها أن الخيام
    ساعده في إبهار البوليفية ماروتسيلا، زميلته
    في دراسة اللغة. وسيبدأ في قراءة الرباعية في اللقاء الذي سيجمعهما مع غادة ومديحة
    وعمر وستكملها عنه فيشعران بأنهما يستعيدان زمنا قديما:


    Ah, my beloved, fill the cup that
    clears



    To-day of past Regrets and future
    fears



    To-morrow? -why, Tomorrow I may be


    myself with Yesterday,s sev,n
    thousand years



    * *
    * *



    Ah, fill the cup: -what boots it to
    repeat



    How time is slipping underneath our
    feet:



    Unborn tomorrow, and dead yesterday,


    Why fret about them if to-day be
    sweat!



    ينبش
    كل زمن شعراءه وينشد قصائده. فلماذا استخرجت الخمسينيات الخيام؟ فغنته أم كلثوم وترجم
    ترجمات جديدة؟ كيف جاورت الرباعيات نشيد الشابي "إذا الشعب يوما أراد الحياة"؟
    كم أغنى الخيام حياة بشر فجعلها براقة ممتعة ومطربة! ملك مديحة زمنا أكثر مما ملك ليلى.
    تأملته فيلسوفا وذواقة. وأضفى على تلك السنوات من صباها فتنة. كان الدفاع عن الوطن
    الذي اندفع إليه الشباب يفترض الصحو، المشروع والبرنامج. وكانت الأحزاب كلها، ذات برامج
    تغطي السنوات القادمة. حام على ضفافها المنحازون إلى القومية العربية والاشتراكية
    العربية والماركسية وحللوا العصور الانسانية
    واستشفوا أشكال المجتمع القادمة. وذلك كله بعيد عن عمر الخيام! لماذا إذن سحر الخيام
    الكهول والشباب وجر إليه مديحة وليلى وغادة وقيسا وعمرا؟ فتنهم تناسق البنية الفنية،
    وإنسانية الرؤية الفلسفية، وحب الحياة والحزن عليها، وأسئلة الإنسان الخالدة!
    ومايحفّ بالتراث الإنساني من أنفاس أجيال وصدى عصور. سيحمي ذلك ليلى وعمرا يوم
    تضيّق السياسة الفن فتجعله كأنه صوتها فقط، أداتها وخادمها. وسيهرع عمر عندئذ، مع
    أنه طبيب، إلى سعة الفن ووظائفه الكبرى في تربية الشعور بالجمال والذوق وشفافية
    الروح ونقاء الضمير وصفاء الأخلاق. وسيحرس ذلك التمردَ السري التراثُ الانساني الرفيع
    الذي استطاع الحياة خلال العصور ليسند روح الإنسان!


    مع
    ذلك لم تستسلم ليلى لرؤية الخيام كما استسلم لها قيس ومديحة. رأت من الخيام فقط الفنان،
    محب الحياة، وذواقتها. والشعر المطرب. نعم للفن خصوصية! ليس الفن فكرا فقط كالفلسفة.
    الفن للمتعة، للطرب، لتذوق الجمال! لذلك بقي عمر الخيام بينها وبين رفيقتها مديحة متعة
    سرية. من أشيائهما الشخصية، رفيق مقطع من العمر. قد يعود في عمر آخر لكنه لن يكون
    بمثل ذلك السحر.


    حاولت
    مديحة أن تجد نسخة أخرى من رباعيات الخيام التي أهدتها لليلى. لكنها لم تجد مثلها
    في مكتبات بيروت. لماذا تمنت أن تحتفظ بمثيلة تلك الطبعة؟ لأن فيها أثر زمن؟ أم
    لأن ترجمة أحمد رامي والصافي النجفي مختلفة عنها؟ استعارتها مديحة من ليلى: أسبوعا
    فقط! لكن ليلى نسيت الكتاب في تلك الأيام، وتفادت مديحة بعد موقفها من الوحدة.
    وصارت أقرب من غادة. فبقي الخيام عند مديحة يوم سافرت ليلى في بعثة إلى موسكو دون
    أن تودع صديقتها القديمة. ولم تعرف إلا بعد عودتها أن الخيام صودر من بيت مديحة. عبأت
    سيارة من السيارات الستّ التي طوقت بيت مديحة، كتبها. هل استقر الخيام في إضبارة
    مديحة كمقطع من الحياة يخبر عن صاحبته؟ هل قرأه هناك أحد، أم انشغل من تناوله
    بالمنمنمات وقصها صورا يلصقها على سيارة أو مكتب؟ وإذا قرأه هل مسه سحر الخيام، أم
    كان فقط كالمنقب عن المعلومات والأسرار؟ في الساعة التي صودر فيها الخيام يومذاك كانت
    مديحة تعبر الحدود إلى لبنان
    .
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية السبت يوليو 17, 2010 2:37 pm


    ستردد ليلى فيما بعد: ماأحلى أيام المدرسة،
    وكم مرت مسرعة! وكانت السنوات الأخيرة أحلاها، لأن ليلى ورفيقاتها اقتربن من
    المعلمات، وزرنهن في بيوتهن. ستتزوج واحدة فقط من صف ليلى قبيل البكالوريا،
    وستنتسب بقية الفتيات العشرين إلى كليات العلوم والآداب والطب. سيكن قلة في صفوف
    أكثريتها ذكور، وسيلزمهن ذلك بأن يتفوقن. لكن الجامعة لن تقطع علاقتهن بمعلمات
    المدرسة.



    وكانت رشيقة، أستاذة التاريخ، أقرب المعلمات إلى
    الطالبات. تتجاوز الكتاب المدرسي المقرر وتتحدث بلغة صافية كمن يروي حكاية، عن
    الأمة العربية المظلومة: لاتضيعوا ياأولاد في التفاصيل كأن كلا منها منفصل عن
    الآخر. بل افهموا الأحداث في سياقها الذي يجري إلى هدف. واستنتجوا محورها المركزي.
    تساءلوا ماهو جوهر الأحداث منذ بداية القرن حتى اليوم، وماهي القوى التي رسمتها
    والمصالح التي دافعت عنها؟ كانت رشيقة تفصّل في المعاهدات الاستعمارية التي قسّمت
    الوطن العربي. وتقرأ على طالباتها قرار الأمم المتحدة الذي اتفق فيه الغرب والشرق
    على اختراع بلد لاعلاقة له بدول المنطقة وشعبها. وتقول إن المهاجرين الصهيونيين
    غرباء عن المنطقة لأنهم من اليهود الخزر. وتعبر عن دهشتها لأن الاتحاد السوفييتي
    وافق على التقسيم واعترف بإسرائيل بعد إعلانها، مع أنها قاعدة للغرب الاستعماري!
    تساءلوا إذن عن مراكز النفوذ التي يحتلها اليهود في الشرق والغرب! ماالحل؟ تجمّع
    الوطنيين في تنظيم يخلّص الوطن من الإقطاعية والرأسمالية ويبني الاشتراكية
    العربية، ويوحد الوطن المجزأ ليصبح قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية. لم تنجز أحزاب
    البورجوازية برنامج التحرر الوطني الاقتصادي والثقافي والسياسي، بعد إنجازها
    الاستقلال. لذلك يجب أن تنجزه تجمعات أو قوى أخرى!


    كان درس الأستاذة رشيقة ممتعا لأنه متصل
    بالواقع، ومليء بالأحلام. كانت تمازح تلميذاتها، وتدعوهن إلى بيتها, وتنظم لهن
    أحيانا رحلات إلى الغوطة. كانت امرأة فريدة. تلبس ملابس طويلة حتى الأرض كأنها من
    عصر مضى، وتطلق شعرها في ضفيرة ثخينة تصل إلى خصرها. ولم تكن تلبس أحذية بكعوب
    أبدا. وبدا أنها يمكن أن تصبح رياضية لو صرفت بعض الوقت في الرياضة. لكن وقتها كان
    مكرسا للكتب ومناقشة مؤلفيها واستقبال السياسيين أو زيارتهم.


    في الرحلة التي اشتركت فيها ليلى وغادة التقت
    الطالبات بالأستاذة رشيقة قرب الباب الشرقي في السادسة صباحا. فحدثتهن رشيقة عنه
    وعن سور دمشق والعلاقة بين المسلمين والمسيحيين: "هم عرب البلاد
    الأصليين". ثم مشين في طريق الغوطة
    إلى خرابو. قالت لهن: أتعرفن أن حلم فخري البارودي في أيام الدولة العربية كان
    تأسيس مدرسة زراعية تعلّم أصول الزراعة الحديثة؟ كان الطريق ملكهن لاتقطعه أحيانا
    غير دواب محملة بالخضار متجهة إلى أسواق المدينة. قالت: انظرن إلى هؤلاء الفلاحين!
    هم المنتجون، لكنهم لايملكون الأرض التي يعملون فيها! ركضت الأستاذة رشيقة وسابقت
    تلميذاتها تحت أشجار الجوز التي تظلل الطريق في خرابو. سبقتهن واستدارت إليهن
    وانتظرتهن. قالت: أتعرفن يابنات أن المهاجرين اليهود يفرضون التدريب الرياضي! ذلك
    جزء من التدريب العسكري الذي يؤهلهم للحرب علينا! يجب ألا تهملن الرياضة. انتسبن
    إلى نادي الفتيان أو إلى النادي الغساني. العبن في الملعب البلدي! لاتتصورن أن
    إسرائيل ستكتفي بالقطعة التي احتلتها من فلسطين! حدثني الأستاذ أكرم الحوراني عن
    وحشية الاحتلال اليهودي التي خبرها بنفسه خلال الحرب في فلسطين. أنتن من الجيل
    الذي يجب أن يرد ذلك الخطر. وستكون سورية دائما في خطر. لأنها قلب العروبة النابض.
    هنا شنق شهداء أيار، وهنا قال يوسف العظمة لن يدخل المحتلون إلى دمشق دون مقاومة!
    وهنا استكمل نور الدين الشهيد توحيد الإمارات العربية وأسس الشروط لتحرير القدس
    وطرد الفرنجة!


    كانت الأستاذة رشيقة تتوهج عندما تتحدث. فيحمر
    خداها وتتألق عيناها. فتقنع المستمع إليها بصدقها وتُعديه باندفاعها. وكانت
    بالمقدار نفسه تظهر الحماسة للخلاص من التخلف الذي تعاني منه المرأة. وتقول هذا
    نتيجة الاستعمار والوضع الذي يلائم الإقطاع. فالمرأة العربية شاركت الرجل في
    الحرب، وأنشدت الشعر، وكانت تصلي في المساجد مع الرجل وتناقش الخلفاء، وكانت تدير
    صالونات أدبية. تذكرن أن غزالة الحرورية كانت تحارب دولة! وأن سكينة كانت تحاور
    المفكرين!


    سحرت الطالبات بساطة رشيقة وصدقها. وشعرن لأول
    مرة بأنهن أفراد في مجموعة، وأن لهن دورا في مصير الوطن العربي كله. أصبح الحلم
    بالحب والزواج مقطعا يواكب حياة واسعة. وصارت المهنة نفسها وسط تلك السعة. لكن
    الحق في الحب واختيار الزوج بدا من شروط أن تكون المرأة ندا. مع احترام رضا الوالدين.
    قرأت رشيقة بعض قصائد نزار قباني وأثنت على لغته البسيطة التي تقرب الناس من
    الشعر، وارتقائه بالعواطف الذي أذلها المغنون السوقيون! بدا نزار قباني من التفتح
    الذي تحمست له رشيقة.


    هل انتقلت طالباتها بعد البكالوريا إلى الجامعة
    لأنها حدثتهن عن العلم كواجب نحو النفس ونحو المجتمع، وخاصة للنساء؟ أم كانت رشيقة
    نفسها من مزاج عام رفع قيمة العلم والعمل، وأغرى ببناء وطن متنور يتفتح فيه
    الإنسان!


    شاركت ليلى الطالبات في زيارة الأستاذة رشيقة في
    بيتها. وشربت معهن الشاي وتفرجت على مكتبة أستاذتها. كانت المكتبة تغطي جدارا
    كاملا، مع أن رشيقة قالت إنها لاتحب الاحتفاظ بالكتب، وتمارس توزيعها كي يقرأها
    غيرها. هذه المكتبة إذن بعض ماكان لديها! عرضت رشيقة على الطالبات أن يخترن مايحلو
    لهن منها. فأخذت غادة روايات دستويفسكي التي ترجمها سامي الدروبي وروايات غوركي
    التي نشرتها دار اليقظة. واختارت ليلى ديوان عمر أبي ريشة. شربت ليلى الشاي مع
    زميلاتها وذاقت الكاتو الذي حضرته رشيقة لطالباتها. لم تكرر ليلى الزيارة إلا مرات
    قليلة صادفت خلالها رجال الأدب والسياسة الذين تنشر الجرائد أسماءهم. لكن غادة
    وبعض التلميذات بقين يترددن عليها. ثم صرن يحضرن اجتماعات في مكتب حزب البعث في
    الشهداء. وصارت ليلى تراهن فيما بعد في صدر مظاهرات الجامعة. وستتساءل: هل كسبت
    غادة من رشيقة فيما بعد بعض الكتب التي استخدمتها في مناقشة مديحة؟


    قالت غادة: سأزور زوجة أكرم الحوراني. تعالي
    معي! ورافقتها ليلى. سترى بيت الرجل الذي تتحدث البلد عنه، وستعرف زوجته! كانت
    رشيقة قد حدثت غادة عنه منذ بداية تقاربهما. كان أكرم الحوراني قد عرف في شبابه
    بيروت ودمشق وفلسطين. درس في معهد الحقوق في دمشق وانتسب إلى الحزب القومي السوري
    مجذوبا بعلمانيته وتنظيمه ومشروع وحدة سورية. وتركه بعد سنتين وترأس حزب الشباب في
    حماة فسند الفلاحين ضد الإقطاعيين. كان من شعارات ذلك الحزب "هاتوا القفة
    والكريك لنعش الآغا والبيك". حمل الحوراني مزاج الحموي الزكرت، ونقله إلى
    مستوى سياسي. دافع عن الفلاحين بالقوة، فكسب سمعة لن يبددها انصرافه إلى مشروع
    سياسي واسع. في سنة 1941 هبّ لنجدة الضباط الثوار ضد الإنكليز في العراق، وجرّ معه
    ضباطا سوريين. فعاد بعمق عربي في مشروعه. محملا بتجربة الرد الاستعماري الوحشي على
    الضباط الذين أرادوا حياد العراق بين المتحاربين في الحرب العالمية الثانية.
    فانتخبته حماة نائبا في البارلمان سنة 43
    وهاجم العشائر والإقطاع. ثم دخل إلى فلسطين مع المتطوعين واشترك في مقاومة
    الصهيونيين. وقوى هذا المسار علاقاته بالضباط الجدد في كلية حمص العسكرية.


    كان الضباط الذين ساهموا في الانقلابات قد
    حاربوا في فلسطين قبيل خسارتها. فكان عجز الجيوش العربية عن الحرب من أسباب
    الانقلابات التي عصفت بمصر وسورية. فهل كان الحوراني يتصور أن المساهمة فيها تحقق
    مشروعه بسرعة؟ مع ذلك كان يتقدم في تنظيم الشباب. وكان أعضاء حزب الاشتراكي العربي
    في سنة 1950 أكثر من عشرة آلاف. في سنة 1952 وحد حزبه مع حزب البعث، حزب ميشيل
    عفلق وصلاح الدين البيطار. كانت رشيقة قد استمعت إلى ميشيل عفلق وتابعته. بدا لها
    أنه يصوغ النظرية. لكن الحوراني هو رجل العمل، رجل الواقع والجماهير. أحدهما رجل
    المدرسة الفكرية والآخر رجل السياسة. أحدهما ينغمس في الانتخابات النيابية ويمارس
    ماتفتحه له من اتصالات ونشاط وقرارات، والآخر يرى أن اللعبة البارلمانية يجب ألا
    تشغل عن المشروع الواسع. بدا لها أن الحوراني يفهم بدقة دور الجيوش في العالم
    الثالث ويفيد من ذلك الدور. ولايبالي بأن يقال عنه إنه من أنصار
    "الاستعجال". يجب تركيز العمل في قطاعي التعليم والجيش فهما القطاعان الحاسمان
    في القرار. وستتبين رشيقة فيما بعد أن ملاحظاتها لمست الاختلاف الذي أثر في مسار
    الحياة العامة في سورية والعراق. لم يتردد الحوراني في الاعتماد على الانقلاب
    العسكري، مع أنه سيرفض فيما بعد نفوذ العسكريين. لكن الرزاز سيسمي ذلك خطوة في
    الظلام تلغي دور المنظمات الشعبية والعمل الشعبي. وستقرأ في الأيام الصعبة فيما
    بعد قوله "خطر الحكم العسكري يزداد حين تضعف القوة الشعبية". وستتأمل
    رأيه في ضرورة أن تحكم القيادة الحزبية المدنية المنظمة الحزبية العسكرية. ساقت
    الحماسة والأحلام رشيقة وبهرت بها تلميذاتها. كان الانتباه يومذاك مسددا إلى حلف
    بغداد الذي سيغير أسماءه فيصبح حلف السنتو، ويصبح فراغ ايزنهاور. وإلى حشد الأصوات
    لقائمة الاشتراكيين في انتخابات حرة. وتأسيس منظمات قوية مثقفة.


    كانت غادة تعتد بأنها أصبحت ضيفة أليفة في بيت
    أكرم الحوراني. فالتفاهم ألغى الفرق في سنوات العمر. وصارت تطل على جانب آخر في
    علاقة السياسي بزوجته. وتعرف القدَر الذي يحرمهم من المتع العادية. قالت نزيهة
    ضاحكة مرة: قصصت شعري وعدت مزهوة من صالون الحلاق. كان أكرم مستعجلا فصادفته قرب
    الباب. سألته ماذا تلاحظ؟ نظر إلي وقال إنه لم يلاحظ شيئا غير عادي. سألته ألا يعجبك
    شعري القصير؟ سألني وهل كان طويلا؟ لكن نزيهة حملت واجبات السياسي المعقدة. بدت
    لغادة ربة بيت، وسيدة أنيقة جميلة، ومعلمة تحب مهنتها، وحاضنة أزمات عامة، ورحالة
    تتنقل مع زوجها إلى حيث سيقدر له أن يرحل راغبا ومضطرا. ولن تلتقي بها إلا بعد
    عقود وهي مريضة تقاوم السرطان في شجاعة. وستتبين العينين الحلوتين الخضراوين،
    وبريقهما الأخاذ، والابتسامة الساحرة نفسها، والذكاء. لكنها ستتبين الحكمة التي
    كنزتها نزيهة من السنوات الطويلة الصعبة.


    كان يسعد غادة خلال الدراسة في الجامعة أن تصطحب
    معها إلى بيت نزيهة بعض زميلاتها أحيانا. مشت مع ليلى في طريق تحف به بساتين
    الصالحية. وبعد ربع ساعة فقط وصلتا إلى بناء جديد في عين الكرش. استقبلتهما شابة
    خضراء العينين، حلوة، لطيفة. كانت معلمتهما القديمة رشيقة في انتظارهما عندها.
    وأظهرت فرحها بلقاء ليلى بعد غياب طويل. تأملت ليلى نزيهة الحمصي، زوجة السياسي
    الذي انتخب نائبا في البارلمان في أيام الاحتلال الفرنسي، ورحل إلى العراق لنجدة
    ثورة الكيلاني، وتطوع في حرب فلسطين، وكتب البيان الأول في انقلاب حسني الزعيم.
    ولم يغب عن انقلاب الحناوي والشيشكلي. وهاهو الآن في المجلس النيابي السوري رئيس
    مجموعة ذات رأي حاسم.


    خمنت ليلى أن غادة تجاوزت مرحلة فحص المجموعة
    التي تلتقي بها عند رشيقة. فقد عرضت آراءها لمنور خلال الغداء. اشتراكيتنا ليست
    شيوعية ياخالتي! لأنها مفصّلة للواقع العربي. يفيدنا الاطلاع على كتب الماركسيين
    لنفهم شرط الثورات وظروفها. الماركسية مصدر مهم من مصادرنا. تجربة تيتو مصدر آخر،
    وكذلك الصين والهند. لكن نظرتنا مؤسسة على واقع بلادنا. وليست لنا مرجعية خارجية
    تفرض علينا قرارها كما تفرض على الشيوعيين. لذلك نختلف عنهم في أمر آخر هو الموقف
    من فلسطين. فقد قبلوا قرار التقسيم لأن الاتحاد السوفييتي قبله. مع أن الأمة
    العربية تعرف أن المستوطنين اليهود غرباء فرضهم الانتداب البريطاني ثم احتلوا
    بالقوة مايتجاوز حتى حدود التقسيم!


    استمعت منور إلى غادة في حنان. تأملت حماستها
    التي تنقل أحداثا لم تعرفها لكنها تصدق ماروي لها عنها. وأثار شفقتها اندفاع غادة
    إلى مصير تستعد فيه لأية تضحية تطلب منها. متى اجتازت هذه الصبية حدود أسرتها
    وأصبحت وسط هيئة في سعة خريطة تمتد من الخليج إلى المحيط؟ هل تجهل منور التي عاشت
    أيام الانتداب أن الأسرة البعيدة عن الأحداث العامة قد تحمي أفرادها، لكن الفرد
    الذي يصبح عضوا في منظمة عامة يوسع قدره بها! قالت لها: عرفت عكا ويافا اللتين
    لاتعرفينهما! مدينتان عربيتان. فمن يستطيع أن يقبل التقسيم الذي وضعهما في خريطة
    يهود غرباء! وهل تعرفين من اولئك المستوطنون؟ أنا عرفت بعضهم! كان الواحد منهم
    يشتري السمكة في طبرية ويضعها في عبّه!


    في ذلك الغداء الطويل الذي قدمت منور فيه ورق
    العنب والكوسا المحشي المطبوخ مع الجانرك والشرحات والعصاعيص، استمعت إلى غادة.
    تركتها تقول مافي قلبها. ثم قالت لها: موفقة! لكن ليلى ابنة شهيد قتل في الجليل.
    ولذلك يجب ألا تنحاز إلى حزب ولو كان برنامجه تحرير الوطن العربي من التخلف
    والإقطاع، كما قلتِ، وبناء الاشتراكية التي تمنع الاستغلال، كما قلتِ! يفيد ليلى
    أن تلتقي بأشخاص متنوعين، وأن تفهم البلاد التي قاوم أبوها فيها الاحتلال، وأنجد
    فيها جياع الحرب العالمية، واستشهد ليرد المستوطنين اليهود عنها! لكنها يجب ألا
    تنحاز لحزب من الأحزاب التي تنظمكم في الجامعة!


    لم تعترض ليلى على كلام منور. لأنهما تحدثتا عن
    ذلك مرات. فالإخلاص لذكرى أبيها أمر لايناقش. والإخلاص له يعني أن تكون مثله، مع
    المجموعة لامع قسم منها. ولكنها لم تخمن أنها ستميز، فيما بعد، سعة انحياز عواطفها
    وفكرها من ضيق التزام الأحزاب المقيد بالولاء لبرنامج وترتيب تنظيمي! وستقنع نفسها
    بأنها كطبيبة لايمكن أن تميز مريضا من آخر. وستؤكد ذلك وهي تسعف الجرحى في حرب
    تشرين!


    وقت أخبرت أمها بأنها ستزور زوجة أكرم الحوراني
    مع غادة. سألتها منور: ستحضرين اجتماعا هناك؟ لا، سنلتقي بها وستكون السيدة رشيقة
    هناك. لايغيب عن منور أن الشباب يلبون حاجة روحية بالانتساب إلى الأحزاب الوطنية.
    يحتاجون إلى مشروع واسع يسددون حيويتهم فيه، ويحملون منها هدفا كبيرا وقضية عامة.
    يكتشفون الحرارة في عمل المجموعة، ويستقوون بأنهم منها. ويتبينون مافي أنفسهم من
    القوى ويتعودون التنظيم. ألم تعرف منور ذلك بعد عملها في الهلال الأحمر؟ ألم تجد
    فيه خلاصا من وحدتها وهواجسها؟ ألم تتبين فيه قوة الروح والجسم التي ظنتها خبت بعد
    مقتل ابنها وزوجها؟


    كم بدا الوطن لليلى جميلا خلال الحديث عنه في
    بيت الحوراني! كم بدت الأحلام نقية وقريبة! لاشيء يمكن أن يمنع وحدة الأمة العربية
    المجزأة في أقطار باتفاقيات استعمارية. وحدة الأمة قدر يجب أن يحمل تنفيذه شباب
    مؤمن بقدرة الأمة العربية وحيويتها. أما الاشتراكية فستكون عربية نابعة من حاجات
    محلية عربية. تتمايز البلاد العربية بسبب التجزئة، لكن التصميم يمكن أن يزيل
    الفروق بينها. مع ذلك بدا كل ذلك غائما متداخلا في الحلم. لكن الحقيقة المتوهجة أن
    الأشخاص الذين التقت بهم ليلى مخلصون وصادقون ومتحمسون.


    وكانت نزيهة الحمصي، فوق ذلك، صافية الوجه،
    أنيسة، جميلة، هادئة، متفائلة، تبدو سعيدة وابتسامتها ساحرة. قدمت للفتاتين سكاكر
    وقهوة. وتحدثت مع صديقتها رشيقة عن كثافة الاجتماعات التي تحرمها من اللقاء بزوجها
    تقريبا. لكنها لم تكن تشكو. بل بدت كمن يروي واقعا لايدينه بل يعتز به.


    سألت منور ابنتها: أعجبتك زوجة أكرم الحوراني؟
    ردت: نعم، كثيرا! لايحسد الإنسان المتعب المشغول. لكني غبطتها! قالت منور: لكن
    تذكري مكانك! لاتستسلمي لإغراء أي حزب! لاأقول لك ذلك لأني أخاف عليك. بل لأن
    الأحزاب التي ترينها متفقة اليوم قد تختلف غدا. وابنة الشهيد يجب ألا تنغمس في
    المنافسة أو في الصراع بين الجماعات والأحزاب!


    ستكون ليلى شاهدا على حوار بين مديحة وغادة.
    وستسألهما: هذا تنافس أم صراع؟ وسترد مديحة: بل اختلاف في إطار التجمع! قالت غادة:
    تطبقون على بلادنا نظرية مجردة. تتحدثون عن بروليتاريا غير موجودة، وعن فلاحين لم
    نعرف مثلهم إلا في الأفلام والكتب. الاطلاع على نتاج الفكر السوفييتي ضروري
    لاستكمال ثقافة أي مواطن. لكننا لن نقتلع من هويتنا. تفرجي، تتحدثون عن الواقعية
    الاشتراكية وفي بلادنا لايزال الفلاح يمشي أمام زوجته والرجل يمكن أن يطرد زوجته
    من البيت! نحن نستقي من أية نظرية اشتراكية في العالم. نستفيد من أسلوب ماركس
    العلمي في تحليل القوى الفاعلة في المجتمع وسياق حركة التاريخ والمراحل التاريخية.
    نأخذ بهذه المقدمات كوسيلة علمية. أنتم تنقلون صورة التطبيق السوفييتي للاشتراكية
    كصيغة مقدسة! ردت مديحة في هدوء: حاجات الإنسان واحدة، أكان أبيض أم أسود أم أصفر.
    والماء يغلي في الدرجة مئة! فقالت غادة: لكن العرب يعيشون في ظروف معينة ياحبيبتي!
    والتاريخ يبين أنكم التفتم إلى الصراع الطبقي عندما كانت الثورة على الاستعمار هي
    المسألة في الوطن العربي. وأكبر أخطائكم أنكم رأيتم أن مقاومة الصهيونية حركة
    رجعية تقودها الرجعية العربية، وأن وحدة المصلحة تجمع بين البروليتاريا العربية
    واليهودية. وعندما غيرتم نظرتكم لم يكن ذلك التغيير نابعا منكم بل بسبب قرارات
    المؤتمر العشرين في الاتحاد السوفييتي وانتباه السوفييت إلى حركات التحرر القومية
    والحق في تعدد الطرق إلى الاشتراكية. أضيف إلى ذلك أننا نختلف معكم في مسألة
    الحرية والحق في التعبير وتنوع التنظيم. تحددونها أنتم بالطبقة ونراها نحن متصلة
    بحق الإنسان في التجمع والتعبير. ياغادة! أنت التي تتوهمين أن الإنسان يعيش خارج
    شروط الزمان والمكان! لذلك فالحرية عندك مطلقة خارج الطبقات. والأمة عندك كتلة
    واحدة ثابتة لاأغنياء وفقراء فيها. والعالم لديك معسكر واحد يستوي فيه المعسكر
    الاشتراكي الذي يساعدنا والمعسكر الرأسمالي الذي يعادينا! ستقول لهما ليلى وهي
    تتركهما غارقتين في الحوار: سأنصرف لأعدّ الاحتفال باتفاقكما! وسترد غادة مداعبة:
    هذا خلاف في إطار الاتفاق!

    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية السبت يوليو 17, 2010 2:39 pm


    في السنة الاولى من الدراسة في
    الجامعة التقت ليلى وغادة ومديحة بعمر. سبقت غادة زميلتيها في معرفته. قدمه لها
    رفاقها: عمر بطل من أبطالنا، صمد في سجون الشيشكلي. خيل إليها أن عمرا ارتبك فقال:
    لاتصدقيهم! أنا طالب في كلية الطب خسر أكثر من سنة من الدراسة ويحاول أن يعوّضها!
    وشعرت غادة بضيقه بريش الطاووس الذي يزينونه به. وكم بدا لها لطيفا ودمثا!



    أتى عمر من الحسكة في شمال سورية ليدرس
    الطب. ومنذ وصل تسرب كسواقي الماء في دمشق. استأجر غرفة في زقاق الصخر، ثم انتقل
    إلى غرفة في الشعلان دلّه إليها طالب أردني. قال له أبوه: ادرس، لكن مع الدراسة اعرف
    الدنيا! في العاصمة رجال السياسة وموظفو الدولة! عش، صر رجلا ياابني، ولاتفكر في
    المصروف، بل في العمر الذي يهرب فلايبقى لك إلا ماتكسبه منه! يزرع أبوه القمح،
    ويرسل قطعان الخرفان مع الرعيان إلى البادية، والدنيا في خير.


    لم يخطر لأبيه أن عمرا سيبدأ نضجه في
    السجن. وجد عمر نفسه بين طلاب يرفضون اللعب بالقوانين وحكم الفرد، ويتوجسون من
    اتصالات سرية أمريكية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين. دون مؤسسات ديمقراطية يمكن أن
    يقرر كل شيء في السرّ! التنازل عن فلسطين التي حارب فيها الحوراني والمالكي
    والشيشكلي نفسه، وقتل في سبيلها القسام وسعيد العاص ومئات المتطوعين العرب؟ ذلك من
    الكبائر! قال عمر لزملائه الطلاب أنا معكم! لن ينتسب إلى أي حزب فيقيد نفسه بنظامه
    وأوامره ويحاسب على كلمة زائدة وكلمة ناقصة. لكنه لايوافق على إلغاء الأحزاب. لم
    يعتقل، لكنه لايوافق على اعتقال الناس، بل يتمنى أن تكون السجون حتى للمجرمين من
    زجاج شفاف. مرّ خلال نزهته في شارع بغداد ببيت الشيشكلي. بيت بسيط. لمح مقابله على
    الرصيف الآخر بيتا تبدو من نوافذه وفي شرفاته فتيات جميلات. ذهل. رجع فرآهن مرة
    أخرى. تساءل: لإفساد الضباط بمكافآت صغيرة؟ مكان للعمل ومقابله مكان للراحة؟


    صرخ عمر مع زملائه الطلاب: تسقط
    الديكتاتورية، يسقط الإرهاب! ووجد نفسه معتقلا مع مجموعة منهم. اكتشف خلال
    الاعتقال مهانة الإنسان في السجن. لم يتحمل بعنفوانه الريفي أن يضربه جندي ويقول
    له ياكلب. فأضرب عن الطعام. وعندئذ تلقى أول دروس السجن: لايجوز الإضراب عن الطعام
    إلا بعد الاتفاق على برنامج يوافق عليه المعتقلون ويستطيعون الدفاع عنه. هل ندمّر
    أجسامنا بإضراب عن الطعام لاهدف له؟ كرامة الإنسان؟ من حسنات اعتقالنا أن نطّلع
    على معاملة المواطنين الفقراء الذين لاسند لهم! هل سمعت نحيب تلك الأسرة التي سجنت
    مع أطفالها؟ التحقيق ضرب وفلقة وسياط! هل رأيت المحامين الذين حلقت شعورهم؟ في سجن
    تدمر ضباط معتقلون، أيضا! أفاد عمر من خبرة السياسيين في السجن، لكنه بقي حرا دون
    ولاء لحزب!


    يوم نقل مع الطلاب المعتقلين بشاحنة عسكرية
    مغلقة إلى تدمر، رأى تسليم المعتقلين واستلامهم في المخافر كأنهم بضاعة. من هذا
    الذي خفف عنهم في عتمة الشاحنة بحكايا مضحكة وقال لهم احتفلوا، فلو لم تكونوا
    مهمين لما شحنوكم إلى الصحراء؟! في تدمر صُلب عمر وضرب. وهناك بدا له أن كرامته في
    عناده فحاول ألا يصرخ من الألم. حتى نصحه أحد المعتقلين: بل يجب أن تصرخ كيلا تزيد
    من حقدهم عليك. لكنه ظل دهشا من اندفاع الجلادين الذين ضربوه: كأن بيني وبينهم
    أحقاد! كأني أكلت مال أبيهم!


    انتهى الاعتقال بمسرحية. بعد الاستفتاء
    الذي جعل الشيشكلي رئيس جمهورية استقبل، كمنتصر، الطلاب المعتقلين واعتذر لهم. لكن
    مارآه عمر في السجن كان أكثر عمقا من مسرحية العفو. وبدا له أن زمن الشيشكلي
    انتهى. اجتمع السياسيون في أيلول سنة 953 في مؤتمر في حمص برئاسة هاشم الأتاسي
    واتفقوا على استعادة الديمقراطية والدستور. وفي بداية السنة الجامعية كان الطلاب
    جاهزين للإضرابات، وجروا إليها المدارس الثانوية. كانت قوات الشيشكلي تقصف جبل
    العرب كأنما لتستبق تمردا فيه. وأنجز الشيشكلي قائمة لتسريح الضباط البعثيين
    والمعارضين. كان الوقت ملائما لإبعاده، ويبدو أن الحوراني نبّه الضباط إلى ضرورة
    أن يستبقوا التسريح. فأعلن الضابط مصطفى حمدون العصيان من إذاعة حلب في 24 شباط
    ودعا القطعات العسكرية إلى مساندته. فانضمت إليه بمن فيها من المستقلين وحزب
    الشعب، ومنها القوات التي كانت في جبل العرب. نزل عمر مع المتظاهرين الذين سندوا
    الضباط المتمردين في حلب. واحتل مع الناس محطة الإذاعة.


    هل كانت سطوة القوة تغطي هشاشة النظام؟!
    سقط الشيشكلي في سهولة! وفهم الحقيقة فتفادى المقاومة الخاسرة وكتب استقالة متزنة:
    "حقنا لدماء الشعب الذي أحبه، والجيش الذي أفتديه، والوطن العربي الذي أردت
    أن أخدمه بتجرد وإخلاص، أقدم استقالتي من رئاسة الجمهورية السورية إلى الشعب
    السوري العزيز الذي انتخبني ومنحني ثقته الغالية، راجيا أن يكون ذلك خدمة لبلادي
    وأن يحقق وحدتها ومنعتها، ويأخذ بيدها إلى قمة المجد والرفعة". تذكر عمر أن
    القوتلي لم يقدم استقالته لحسني للزعيم بل قدمها للشعب السوري! لكن أية رفعة وأي
    مجد حيث يهان الإنسان ويضرب ويعذب؟ من وهب فردا أو مجموعة الوصاية على الناس
    ليختار لهم مايظن أنه مجد وسعادة؟


    يوم دخل عمر قاعة المحاضرات بعد السجن
    استقبله أساتذته وزملاؤه بالتصفيق. واستقبلوه بالتصفيق عندما دخل إلى المكتبة.
    عزّوه في مرح: صرت مثل ناظم القدسي! ستقول أمك يوم تخطب لك: "مستقيم، من
    السجن إلى القصر ومن القصر إلى السجن"! لكن هل ألزمته حفاوتهم بمتابعة
    الأحداث كبطل من أبطالها؟ كانت قاعة المكتبة تهدأ بعد الساعة العاشرة مساء فلايبقى
    فيها غير الغرباء عن دمشق. وكان هؤلاء الطلاب يخترعون لأنفسهم محطات من الراحة
    فيأتي أحدهم ببور كاز كأنه يريد أن يحضّر الشاي فيعترض آخر ويدافع عنه ثالث وينعقد
    حوار مرح. خلال تلك المحطات دفعوا عمرا إلى الوقوف على الكرسي ليلقي كلمة. سعل،
    واصطنع الجد، ثم شكرهم على تتويجه بالزعامة. لكنه أكد لهم أنه لايرغب في انتزاعها
    من "الدوتشي"، طالب الحقوق، الذي يرفعون له الأذرع تحية كلما مرّ بهم.
    وقال في نهاية كلمته المرحة: ضاعت مني أشهر من الدروس. يجب أن أتصوف كي ألحقكم
    يازملائي الغالين!


    لكنه وجد نفسه يحتفي بأول انتخابات حرة في
    خريف سنة 954 ويغضب على تفريق الضباط المسرحين الذين أعيدوا إلى الجيش، في قطعات
    بعيدة، مع أن لهم الفضل في سقوط الشيشكلي. قال: ليس ذلك مسألة وطنية فقط، بل مسألة
    عدالة! فأثنى عليه البعثيون، لكنه ذكّرهم في مرح: إذا مشيت على هذا الرصيف فامشوا
    على الرصيف الآخر! الدراسة!


    لاحظ عمر أنه بعد السجن لم يعد يتحمل
    البقاء في غرفته، ولايطيق الستائر المسدلة، ولايغلق الباب على نفسه إلا وقت النوم.
    وينهض أحيانا وسط الليل ضيّق الصدر. داوى نفسه بالمشي. وكم يحلو المشي في دمشق!
    سحرته دمشق منذ نزل فيها. وبدت له بعد السجن أكثر فتنة. كانت مدينة صغيرة بيضاء
    وسط غوطة هائلة من الأشجار المثمرة، تنعم بأنهارها التي تتسلق جبليّ الربوة، يتدفق
    فيها بردى قويا وهادرا، يغمر في الشتاء ساحة المرجة وتصبح مياه أنهاره شلالات
    تتقافز على الطريق تحت المقاهي في الربوة. كانت بعض البيوت الجديدة قد بدأت تخرج
    إلى بساتين أبي رمانة في الغرب، وإلى بساتين "ماوراء الدور" في عين
    الكرش على ضفة شارع بغداد. لكن البساتين كانت تمتد متصلة من شارع بغداد حتى
    قاسيون. وكانت البساتين تمتد خلف بيت فخري البارودي في كيوان، كثيفة حتى قاسيون.
    فيرتعش عمر من البرد في عزّ الصيف عندما يمرّ من هناك. بهرت عمرا السبلان المنتشرة
    في أنحاء دمشق. هذه مدينة لايمكن أن يعطش فيها الإنسان! ينحني في أية حارة على
    سبيل الماء ويغرف منه بيديه! مدينة سعيدة بمائها، بالتناسب بين سكانها وعمارتها
    وبساتينها. مدينة تشبع من خضارها وفواكهها وترسل مايفيض عنها إلى ما حولها. أهلها
    مثال الرقة والتهذيب. ذاق فيها عمر طعاما لم يذق مثله في حياته، وعرف فيها أنواعا
    من الشراب لم يتصور أن توجد مثل نكهتها. كان زملاؤه الدمشقيون يحتفون به فيدعونه
    أحيانا إلى الغداء في بيوتهم فيتبين في الطعام الأناقة والنكهة والعبق. صار يرى
    الشاهد على الحضارة في الطعام والصوت واللهجة والملابس والحركة، ويقول: ذلك
    لايكتسب إلا في قرون وعصور! وبدا له أن دمشق بدّلته فتساءل مازحا: تدمشقتُ؟


    كان في السنة الثالثة من كلية الطب عندما
    رأى طالبة جديدة ذكّرته بالغزلان التي ألفها في الشمال. كان يحدّث زميله عن حضارة
    دمشق التي اكتشفها. فقال لنفسه وهو ينظر إلى الشابة: هاهي! مرت به دون أن تراه.
    وعرف فيما بعد أن اسمها ليلى وأنها انتسبت إلى كلية الطب. فطمأن نفسه: سأجد من
    يقدّمني إليها! لكنه لم يخمّن أن أصحابه سيستعجلون ذلك فيقدمونه لها مرات ثم سيقدم
    نفسه لها في المكتبة مداعبا، وأن غادة ستجمعهما في شرفة الضيوف في المجلس النيابي،
    وأنه سيكون قريبا من ليلى في تلك السنة نفسها!


    بدت له دمشق في تلك السنوات رخيّة وارفة. يمد
    يده ويتناول منها مايشاء. من يأكل في مطعم سقراط في جسر فيكتوريا ومطعم الريّس في
    بوابة الصالحية وبريمو في البارلمان؟ موظفون، صحفيون، كتاب، وسياسيون! وكان عمر حرا،
    يختار مقامه ومساره. لاعشيرة نعه ولاأهل، وفي الشباب المنتصر من يشعر بالوحدة! كأنما
    كان السجن له بوابة إلى صداقة الرجال. وبصحبتهم عرف البلد. جلس معهم في المقاهي،
    واستمع إلى المناقشات السياسية، وخرج في النزهات، وتذوق الشوارع في الليل. كم مرة
    مشى في شارع بغداد بعد منتصف الليل حتى وصل إلى قصر البللور في باب توما! كم مرة
    ركب عربة الخيل من الربوة إلى دمشق مفتونا بايقاع حوافر الخيل على الطريق! وكم مرة
    مشى تحت شجر الجوز في شارع الربوة مالئا جيبيه بثمار الجوز التي جمعها من الرصيف
    المزدوج تحت الأشجار!


    ركب عمر الترام مع
    مجموعة من أصحابه من المرجة ووصل إلى دوما! كان الترام ممتلئا بالناس. فتناول
    الكمساري المال وناول "البيليتات" لأصحابها فوق رؤوس الركاب. طاشت السكة
    من شريط الكهرباء، فنزل الكمساري وأعادها إلى مجراها. ومد الجالسون رؤوسهم من
    النوافذ وراقبوه وهو يعدّل وضعها بالحبل ثم يربط الحبل في مكانه. وكأنما احتفل السائق
    بذلك فصار يضغط بقدمه جرس الترام في ايقاع يعلن أن النزهة بدأت. تدفقت على عمر
    سعادة بتلك التفاصيل. كان مع أصحابه في مؤخرة الترام فأحاط بما يعبره من البساتين
    التي بدأت بعد القصاع. قطع جوبر وعربين وزملكا وحرستا ونزل في محطة مسيجة بالورد
    الجوري. مشى كالناس يبحث عن بستان مناسب. الغوطة في أيام زهر المشمش بساتين خضراء
    وأشجار بيضاء. والسواقي تعبر أشجار الجوز على حوافّ البساتين وتتسرب حصصا مرة إلى
    هنا ومرة إلى هناك. غرّدت الشحارير، وعبرت السماء أسراب من السنونو، وقاقت
    الغربان. كان الهواء منعشا نظيفا والشمس دافئة. توقف عمر: هنا! اختار البستان
    المناسب. جلس أصحابه على كتف ساقية. نظَموا اللحم في الأسياخ. قدم لهم البستاني
    حصيرا يجلسون عليه. وقدم لهم الماء والملح الذي نسوه. سيخيل إلى عمر أنه أحب
    أصدقاءه أكثر من قبل، وأنه اقترب من ليلى، وهو مستلق على البساط تحت شجرة مشمش
    مزهرة، تتساقط منها عليه تويجات بيضاء مع النسيم. ولكن هل كان يدري أنه سيكون أحد
    ثلاثة رجال أحبوها وحملوا الشقاء والسعادة من ذلك الحب؟


    في أول الصيف قبيل الامتحانات، كان عمر يختار
    مع أصحابه مقاهي القصاع ليدرس مستمتعا بهدوئها. يجلس تحت أشجار مقهى "جناين
    الورد" أو في مقهى "السلوى". من يفتقده في النهار يطلبه هناك! وقت
    عرف قيسا صار يتغدى معه أحيانا في مطعم الريّس، ويتعشى مثله في مطعم بريمو في
    البارلمان. لكن بقيت لعمر مساربه الخاصة. ففي بعض الأماسي يفضل قصر البللور في باب
    توما. وبعد الظهر يجلس أحيانا في مقهى الكمال المكشوف. يختار أحيانا المطاعم
    الصغيرة خلف السرايا، ويعبر خمّارة فريدي على شاطئ بردى، ومشرب المنتدى، والكوكب،
    ثم مطعم سقراط، والصفا، و"لوازيز". وأحيانا يستهويه البرج الفضي أو مطعم
    الشموع الجديدان في الصالحية. ويعجبه أحيانا أن يتناول الشاورما من
    "الصدّيق" في بناء المنزل في المرجة، فالشاورما فيه طيبة ونظيفة مثل
    اللحم المشوي عند أواديس في باب توما!


    لكن من ير عمرا جالسا في مقهى الهافانا
    يظنه من زبائنه. فضّله على مقهى البرازيل حيث يلتقي الزعماء السياسيون وقادة
    اللاجئين السياسيين الأردنيين والعراقيين. لذلك رمى عمر نفسه في الحوار بين جماعة
    البرازيل وجماعة الهافانا. وكان مصير مقهى البرازيل حدَثا. لم يخطر لأحد أن ذلك
    بداية تغيير مدينة صغيرة مستقرة لاشبيه لها. احتل دكان "للنيشان" مكان
    مقهى يجمع السياسيين، فغيّر هيأته ورواده. وسيحتل مخزن مكان مطعم
    "لوازيز" بجانب الهافانا. وسيقول عمر فيما بعد: في تلك الأيام كانت دمشق
    ماتزال غنية تستطيع أن تنفق الكثير من ملامحها!


    قيل لعمر عندما وصل إلى الهافانا في طريقه
    إلى الجامعة: لم يتحمل مقهى البرازيل السياسيين فأفلس. صار دكانا "للنيشان"!
    سأل مرحا: مامصير الزعماء؟ وانشغل مع رواد الهافانا بمراثي "البرازيل".
    نشرت المقالات والقصائد التي كتبت على طاولاته، وعلق الرواد عليها، وكتبوا الرد.
    ونفدت الجرائد التي تابعت المتبارين.


    اجتمع عمر وأصحابه حول رجل قرأ عليهم
    مقالته، وقاطعوه بالتعليق. قرأ: كان لنا مكان واحد نفضل أن نلتقي فيه ونرفع الصوت
    المباح وغير المباح، أن نرمي في ساحته أشلاء الدول وبقايا الحكومات، أن نمضغ فيه
    السياسيين من عيار الكيخيا إلى عيار أبي طوق. وكانت كراسيه مثل سحاحير هايدبارك
    وكل مناضده كمشرحة الجامعة، وكل حيطانه في الصمم كآذان المديون أمام إلحاح
    الدائنين. كان مقهى لكنه كبرلمان. كان مقهى لكنه كدار الندوة. وكانت أحاديثنا تجمع
    في قلبه بين فيضي الأتاسي الحمصي الشعبي الفرنسي البيان، وخليل كلاس الحموي الواضح
    المنطق..


    جلس قرب عمر في الهافانا رجل من أصحابه،
    سحب قلمه من جيبه كأنه يستل سيفا وطلب ورقة، فقصّ له عمر ورقة من دفتره، وشهد مولد
    القصيدة واشترك في تصحيحها. قال الرجل: اسمعوا، أرفع باسم رواد مقهى الهافانا
    قصيدتي إلى اللاجئين إلينا من البرازيل:



    يامرحبا،
    ألف تأهيل وتسهيل







    باللاجئين
    زبونات البرازيل





    تفضلوا
    إنكم من أهل شارعنا







    زين
    الكلاحيس جيران الزناكيل





    إنا
    سمعنا بأمجاد لكم سلفت







    في
    الزندقات وفي نصب الأحابيل





    لاتخجلوا
    وادخلوا أهلا بلا طلب







    أو
    قدموا طلبا لكن بلا بُول








    مقابل عمر واحد من اولئك
    "اللاجئين". أشرق وجهه وهو يستمع إلى القصيدة. قال طربا: وقعت البقرة
    فكثرت السكاكين!


    في اليوم التالي حمل عمر جريدة الفيحاء
    ودخل الهافانا. وسعّوا له مكانا إلى طاولة عامرة بالجالسين. وضع الجريدة على الطاولة
    وقال: اسمعوا! كان قد أحاط بالقلم الأحمر قصيدة بتوقيع سليم سلامة. واستمع إليه
    الجالسون في شوق.



    نفسي
    فداؤك عج لي بالبرازيل







    وقبّل
    الأرض فيها أي تقبيل





    واسأل
    جوانبها السوداء مافعلت







    أيدي
    الزمان بهاتيك الدراكيل





    كانوا
    ملوكا على الفنجان يجمعهم







    نشر
    الإشاعات أو بث الأضاليل





    لم
    يرحموا أحدا من ظلمهم أبدا







    ولم
    يراعوا حقوقا للجرانيل





    جار
    الزمان عليهم ثم فرّقهم







    تحت
    الكواكب تفريق البهاليل








    قال عمر: لن يسكت البرازيليون! سيشهرون
    الرمح وينزلون إلى الساحة! وكان على حق. ردوا بتوقيع بديع الزمان.



    قف
    بالطلول وقل يادمعتي سيلي







    أخنى
    الزمان على مقهى البرازيل





    كأن
    أركانه لم تحو ندوتنا







    ولاتضارب
    فيه القال بالقيل





    ولاسقانا
    خليل فيه قهوته







    ملوطة
    بشعير الهند والفول





    تلك
    الموائد كم حيكت بجانبها







    مقالب
    وأعدت من أحابيل





    مقلاية
    الحق في أرجائها نصبت







    لكل
    منتفخ بالعرض والطول





    قالوا
    تدسون، قلنا ذاك ديدننا







    إن
    ساد في الناس أصحاب الأباطيل





    تحارب
    الظلم والطغيان ألسننا







    إذا
    تقاعس كتاب الجرانيل





    الشامتون
    بنا لادرّ درّهم







    من
    ساسة الحكم أو أهل الرساميل








    بدا الجو منعشا عندما خرج عمر من الهافانا.
    أحقا يسعده أن يشترك في تلك المعركة الأدبية؟ نعم، نعم! مشى راضيا على الدنيا. أين
    سيتعشى الليلة؟ لم يقرر بعد. لكنه مشى في اتجاه طريق الصالحية. سيتذكر عندما
    يستعيد ذلك اليوم بعد عقود أن حواره مع ليلى استغرق الطريق كله. قال لنفسه: تبدو ليلى
    وهي تتلفت كأنها تستطلع جوهر ماتراه! وأنت؟ ماجوهر ذلك الحوار الذي استسلمت له؟ ورد
    على نفسه: المتعة! سعيد! نعم، ولكن ماالجوهر، ياعمر؟ آه، كأن ليلى عدتني! أعيش
    مستمتعا بالحوار بين الهافانا والبرازيل! يكفي ذلك! لكنه عاد يتساءل: ماالجوهر؟
    الجوهر أن المدينة للطبقة الوسطى! يستطيع أي إنسان فيها أن يدخل إلى أي مكان يشاء
    فيشعر بأنه يملك البلد! ماأكثر المقاهي والمطاعم في دمشق، مكشوفة في البساتين، أو
    مغطاة. يتحادث فيها الناس عن كل مايخطر لهم دون خوف. يتناولون أي حدث وأي شخص كمن
    يمارس حقا. يجلس الوزراء والسياسيون في المقاهي كأي عابر! ألم تلاحظ أن بعض الناس يقصدهم
    هنا؟ البال خلي! والعلاقة حية بالمكان، ولو كان في مساحة مقهى البرازيل! المثقفون
    وجه البلد! هذه التجمعات سمة الزمن! وهل انتبهت إلى القرب من شعر القدماء، وسهولة
    النظم؟ لكن هذا الجيل ينتهي. نحن ياعمر لانستطيع ذلك!


    لم تكن ليلى موجودة مع عمر يومذاك، ولم يرو
    لها شيئا عن غرقه تلك الأيام في الحوار بين رواد الهافانا ورواد البرازيل. لكنه
    استمتع بأن يتصورها ماشية معه إلى طريق الصالحية، لذلك عبر مطعم البرج الفضي ومطعم
    الريّس ومقهى الكرنك ولم يتوقف. نعم، ممتع أن يتصور ليلى إلى جانبه ويسمع صوتها
    فيتمنى ألا ينتهي الطريق!


    سيقول عمر بعد عقود لم تكن تلك السنوات
    لمقاومة حلف بغداد والحلف المركزي، والتضامن مع بور سعيد والأردن، وحفر الخنادق
    والتدريب على السلاح في جبال المزة، فقط! كانت سنوات النزهات والأفراح، سنوات الحوار
    بين أهل البرازيل وأهل الهافانا. سنوات معرض دمشق الدولي والحفلات الفنية والترجمة
    والكتب. السنوات التي أصبح فيها صوت ليلى دائم الحضور في سمع عمر. وتساءل هل
    يستطيع أن يعود إلى بلدته الصغيرة في الشمال، ويترك دمشق؟ وكان يقصد: هل أستطيع أن
    أبتعد عن ليلى؟

    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية السبت يوليو 17, 2010 2:44 pm


    ألم
    يبالغ عمر عندما وزن تلك السنوات بالذهب؟ لم يمر يوم في هدوء منذ سقط الشيشكلي،
    فلماذا شعر بأنها أيام انتصار؟ لا، لم يبالغ! لأن الناس كانوا مندفعين في تلك
    الأحداث ولاأحد منهم يتفرج عليها من الرصيف! لأن الناس كانوا يؤمنون بأنهم قوة
    وحَكَم وليسوا رعية، كما سيشعرون فيما بعد! لأنهم لم يبايعوا مجموعة بالحق في أن
    تقرر لهم مصيرهم بل اندفعوا إلى صياغته بأنفسهم!



    قال
    فوزي لعمر: محظوظ ياعمر! من تحت الدلف إلى تحت المزراب! لم يمض على خروجك من السجن
    زمنا كافيا للراحة! ولم يمض على التحرر من الشيشكلي زمنا كافيا تستريح فيه البلاد!
    قد يحدث عدوان على سوريا أو مصر! رد عمر مداعبا: نحن هنا! ولكن كيف عرفت؟ العدوان المحدود
    أمر عادي. وهل توقف؟ لكن كم تتلاحق الأحداث! في 28 شباط 1955 احتلت إسرائيل العوجا
    المنزوعة السلاح وعجزت مصر عن الرد. وصلت الأسلحة التشيكية في 27 أيلول 1955 وفي تشرين
    الثاني 1955 أقر المجلس النيابي السوري اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر، وردت مصر القوات
    الإسرائيلية التي هاجمت موقعا مصريا في منطقة صبحة بين سيناء والنقب. في ليلة 22-
    23 تشرين الأول 1955 دخلت قوة إسرائيلية مع أسلحة ثقيلة كيلومترا في الأراضي السورية
    وقطعت الطريق الموازي لخط الحدود بين جسر بنات يعقوب والبطيحة. في الاصطدام قتل ضابط
    وجنديان سوريون وأسر خمسة سوريين. وفي 22 تشرين الأول وصلت عشر قطع بحرية من الأسطول
    السادس إلى بيروت. فهل العدوان إسرائيلي فقط؟!


    أعلن
    في تشرين الثاني 1955 أسبوع التسلح في سوريا. فطرقت غادة الأبواب. وفاجأتها عواطف النساء!
    خلعن خواتمهن وأساورهن أمامها دون تردد وقمنها لها. قالت لها أمها: في زمن جدتك تبرعت
    النساء بحليهن للأسطول العثماني. خذي خاتمي.. كنت سأقدمه لك ذات يوم! قدمت ليلى
    سوارها المطعم بالياقوت وطوقها الذهبي. وقالت لأمها: بلدنا في خطر الآن! فردت منور:
    الآن؟ متى لم يكن في خطر ياحبيبتي؟! وقال فوزي لعمر: قد يدفع إلى العدوان على
    سورية أن التمثيل الديبلوماسي مع الاتحاد السوفييتي رفع إلى سفارة. وأن مرشح الجبهة
    الشعبية التقدمية في حمص، أحمد الحاج يونس، نجح. وصدّق المجلس النيابي الاتفاقية السورية
    البولونية. فسأله عمر مداعبا: انتزعتم حمص من اليمين "العفن"؟!


    في
    ليلة 11 - 12 كانون الأول 1955 هاجمت إسرائيل مخافر الجيش السوري الأمامية في منطقة
    بحيرة طبرية وقتلت 25 سوريا منهم ثلاثة ملازمين. كلهم شباب! ووصل فجأة تمبلر رئيس أركان
    حرب القوات البريطانية إلى عمان ليربط الأردن بحلف بغداد، بعد زيارة عامر قائد القوات
    السورية المصرية المشتركة إلى المراكز الأمامية في الأردن، مع ضباط سوريين. ملأت المظاهرات
    شوارع الأردن. واستقالت حكومة سعيد المفتي احتجاجا على زيارة تمبلر. جاءت حكومة هزاع
    المجالي وقابلت المتظاهرين بالرصاص فسقط جرحى وقتلى. واستقال هزاع المجالي. حمل المتظاهرون
    صور رجاء أبو عماشة التي قتلها رصاص الإنكليز في القدس. ورُفعت الصورة نفسها في مظاهرات
    دمشق وحلب تضامنا مع الأردن. استقالت حكومة ابراهيم هاشم وشكل سمير الرفاعي في 9 كانون
    الثاني حكومة، وتعهد بألا يدخل أي حلف. لكن الاعتقالات استمرت، واستمرت المظاهرات.
    مُنع مؤتمر الهيئات الوطنية فطلب المتظاهرون حل البارلمان، وانتخابات حرة، وتنظيف الجيش
    من الانكليز. فأعلن غلوب حالة الطوارئ. هجم المتظاهرون على مراكز النقطة الرابعة والمفوضيات
    الأمريكية والإنكليزية والتركية. وأنزلوا العلم الأمريكي في القدس وأحرقوه. وطاردتهم
    قوات البادية.


    اشترك
    عمر في تنظيم مظاهرة جامعية، فدعا أصحابه الطلاب المستقلين إليها. وكان ذلك مناسبة
    من المناسبات التي اقترب بها من ليلى. استوقفها قرب قاعة المحاضرات وقال: في الأردن
    الآن مظاهرات كبيرة. أضربت نقابة المحامين في دمشق تضامنا مع المحامين الأردنيين المعتقلين.
    وسيتظاهر طلاب الجامعة تضامنا معهم. ألا تشتركين في هذا العمل الوطني؟ وقفت حائرة:
    سيضيع يوم آخر! قال عمر: سيضيع علي أيضا! لكني لست المذنب! غلوب وتمبلر هما
    المذنبان! ابتسمت ليلى واستدارت معه. كانت تحب الصفوف الخلفية فتجرها غادة إلى
    الصفوف الأمامية. فتبطئ خطواتها وتتراجع إلى الصف الثالث أو الرابع. مشت المظاهرة إلى البارلمان. قفز إلى سور المجلس
    النيابي طالب وخطب في المظاهرة، ثم تحدث طالب آخر. بعد القصيدة التي ألقيت في رجاء
    أبو عماشة عادت ليلى إلى الجامعة، ولحقها عمر. ماأحلى الشوارع بعد المظاهرة! فاترة
    وهادئة، لايكاد يعبرها غير الشباب الراجعين من المظاهرة. قال عمر: هدفهم الآن ياليلى
    ضم الأردن إلى حلف بغداد، ثم ضم لبنان، وحصار سوريا ثم كسرها. أنزلت بريطانيا قوات
    جديدة في الأردن لتمنع المدّ الشعبي! في الأردن انتفاضة وطنية حقيقية. تقع في ذلك السياق
    فظائع غلوب. حكى عمر عن بعضها: دخلت الشرطة إلى بيت فواز الروسان عضو محكمة التمييز
    العليا تطلب أخاه. فقال إذا كنتم تروّعون أسرتي وأنا عضو محكمة فماذا تفعلون بالمواطنين
    العاديين؟ يحكم غلوب الأردن. بأمره أبقي فلاح في الرمثا تحت المطر طول الليل فمات.
    اعتقل رئيس بلدية الرمثا والمجلس البلدي لأن سيارة عسكرية أحرقت في البلد. بأمره ضرب
    الضابط المتوحش كريشان قيسا في إربد، بقضيب من الحديد على رأسه. قتل بالرصاص على المتظاهرين ثلاثة طلاب رجاء واحدة
    منهم. لاحظت ليلى أن الطالبات في مقدمة المظاهرة فخورات بموتها وبطولتها! نعم،
    ياليلى! ماأعجب أن يكون الموت بوابة الحب العام!


    ماالعمل؟
    أدان المندوب السوفييتي في مجلس الأمن عدوان إسرائيل على سورية. واحتج الشقيري مندوب
    سوريا على المساعدة الأمريكية لإسرائيل وطلب عقوبات اقتصادية عليها! لكن الصراع الآن
    على الأردن، وفيه. يجب أن نمنع ضم الأردن إلى حلف بغداد. سألته ليلى: كيف؟ رد: نتضامن
    مع إخوتنا، ونقدم المساعدة البديلة عن المساعدة البريطانية! حزب الشعب، المشترك في
    الوزارة السورية، مع حلف بغداد روحيا. لكن الحكومة لاتستطيع أن تتجاهل مزاج الشارع
    ومزاج الجيش. لابد أن يعبّر بيان الحكومة عن ذلك. سأحضر جلسة المجلس لأستمع إليه. سألته:
    هل هذه المظاهرات في دمشق ضغط على الحكومة السورية، إذن؟ ردّ: أوسع من ذلك! التعبير
    العاطفي تعبير عن موقف وطني يقوي إخوتنا في الأردن! خلال ذلك نقول لحزب الشعب الذي
    لايريد أن يغضب العراق والإنكليز، نحن هنا! مُنع الأردنيون اللاجئون إلى سوريا من الوصول
    إلى دمشق. تركوهم في درعا. فاتصلنا بوزير الداخلية،
    كي يسمح لهم بالوصول إلى دمشق. الجيش يسند الوطنيين. سألها عمر فجأة: هل أقول
    كلمات موزونة أم ترين أني "أهبش" فكرة من هنا وأخرى من هناك؟ التفتت إليه:
    لا! بل تضع التفاصيل في سياق. وتقدم لي معلومات أجهلها! احمر. لو تعرف كم يقاوم
    ارتباكه عندما يتحدث إليها! يشعر بأنه ينشر ريش الطاووس كي تُعجب به، ويخشى من
    انتباهها إلى ذلك! قال: أخشى أن أكون أسير لغة أدّاها غيري مئات المرات! لاتوجد
    كلمات شعرية للتعبير عن الأحداث! سألته: ولماذا تحتاج لغة شعرية للتعبير عنها؟
    فلتبقها لقصائدك! لو تدري ليلى كم أوجعته! ذكّرته بما يهمله!


    استمع
    عمر في ذلك المساء من شرفة الزوار في مجلس النواب إلى بيان الغزي. لم يجد كرسيا فارغا
    فبقي واقفا. قال الغزي: "الأردن جزء من الوطن العربي، كما أنه في الوقت نفسه جزء
    من الوطن السوري نريد له الخير والاستقلال التام.. الأردن مرتبط بدستور ومجلس وحكومة
    وأوضاع شرعية لتلك المنظمات.. نحن لانتدخل في أموره الداخلية. لكن واجبنا القومي أن
    نقدّم إلى الأردن الشقيق المساعدة والمعونة التي تمكنه في ظل حكم نيابي شرعي صحيح من
    أن يتخلص من القيود التي تحد سلطاته الشرعية. وقد تشاورت هذه الحكومة مع الحكومتين
    الشقيقتين مصر والسعودية في أمر تقديم المساعدة المالية للأردن. وبعد المشاورات التي
    بدأت بعد الحوادث الاولى في الأردن وانتهت اليوم، قدّمت الحكومات الثلاث مذكرة رسمية
    إلى الأردن جاء فيها أن الحكومات الثلاث ترغب في أن تتشاور مع الحكومة الأردنية في
    الطريقة التي تقدّم بها الدول العربية المساعدة والمعونة للأردن.. أما المساعدة الأخوية
    التي علينا أن نقدّمها نحو أبنائنا وإخواننا من أبناء الأردن الشقيق الذين جاؤونا مستغيثين،
    فقد فتحنا لهم أبواب بلدنا وحدودنا وقدّمنا وسنقدّم إليهم كل المساعدات التي يفرضها
    علينا واجب الإخاء".


    مشى
    عمر بعد الجلسة مع فوزي. سأله عمر: مارأيك في البيان؟ ردّ: لبق! طلبت الهيئات الوطنية
    الأردنية ولجان التوجيه الوطني في نابلس من الملك أن يسعى إلى المساعدة العربية بدل
    الأجنبية! جوهر البيان الوزاري أنه يقترح تلك المساعدة العربية!


    كانت
    الجلسة فرصة لعمر للحديث مع ليلى. روى لها ماسمعه في الجلسة. ابتسمت: كأنك كنت تعرف
    مافي البيان! لكن الفرق بيننا وبينه واسع. هو يتحدث عن أوضاع دستورية في بلد شقيق،
    وعن إمكانيات المساعدة استنادا إلى ذلك. ونحن الطلاب نبدأ من أن تقسيم البلاد العربية
    غير شرعي، ولا حدود لمساعدة عربي لآخر. أين يبدأ التدخل وأين تبدأ المساعدة؟ تحب ليلى
    أن توجز ماتراه في نتائج! ردّ عمر لها الابتسامة وقال: يختلف موقف طلاب غير مسؤولين،
    عن موقف سياسي يجب أن تكون كلماته في شكل قانوني. نؤمن بأننا شعب واحد! لانمارس
    إذن التدخل! لكن بيان الغزي يتضمن احترام حدود سايكس بيكو، واحترام عواطف الجيش والشعب.



    بعد
    أيام نظم اجتماع في دار نقابات العمال تحدث فيه الخطباء عن الغضب الشعبي، والغرامات
    الجماعية، ومنع التجول، وإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وجرائم "أبو حنيك"
    وباتريك مدير المباحث البريطاني! ثم قرئ بيان جبهة النضال العربي، وبيان تضامن المجتمعين
    مع الأردن. وسافر عمر إلى حمص ليشترك في اجتماع للتضامن مع الأردن. قال: في بلد الأتاسي
    الذي عرقل دخول الأردنيين إلى دمشق! وعاد ليحضر اجتماعا في سينما بلقيس لدعم الأردن
    ألقى فيه سليمان العيسى قصيدة وتكلم فيه الدكتور عبد الرحمن شقير الذي وصل من الأردن،
    وقرئ فيه بيان المجتمعين الذين طلبوا تنظيف الجيش الأردني من البريطانيين.


    انساقت
    غادة في الاجتماعات وبقيت ليلى على ضفتها. بدت غادة سعيدة مؤمنة بأن التضامن سيثمر.
    يجب أن يحكم الناس الذين يجتمعون ويقاومون الأحلاف، قدر بلادها! لكنها بالغت في
    دور النخبة، فسخر منها عمر: كل هؤلاء الآلاف نخبة؟ أين الشعب إذن؟ كانت غادة كمن
    يسبح في انتصار، فلم تتساءل يومذاك لماذا قدر أن تبدأ حياة أجيال وتنتهي وهم يقاومون
    حلفا أو عدوانا أو خطرا ما! وأن يقتل الشباب، أو يكون السجن مرحلة في حياتهم! لماذا
    ستتمنى الفتيات أن يكن كرجاء أبو عماشة المقتولة في القدس، أو كجميلة بو حيرد،
    وينسين أمنيات الحياة الواسعة!


    في ذلك التوهج لم تفكر غادة وعمر وليلى ومديحة وفوزي بأن المشاريع
    التي ترمى للبلاد تهدر الوقت وتبدّد القوى. وبأن المقاومة تستنفد أجيالا. هاهو بيان
    ثلاثي أمريكي انكليزي فرنسي يهدد بإرسال جيوش إلى المنطقة لتمنع الحرب بين العرب واسرائيل!
    فتردّ عليه وزارة الخارجية السوفيتية ببيان: دخول جيوش إلى منطقة الشرق الأدنى والأوسط
    يناقض مصلحة السلام، ولايمكن أن يقف الاتحاد السوفييتي لامباليا. قال عمر: هل يستغرب
    أن تمتلئ روح جيلنا بالكره للغرب وبالامتنان للشرق؟ مزاج جيلنا فقط؟ لا! مزاج بلدنا!
    فرض الغرب المعركة علينا. خذي اقرئي بيان خالد العظم! يجيب عنا جميعا! تناولت ليلى
    منه الورقة وقفزت بين الجمل: "قد يكون تهديد اسرائيل حقيقة أو لدفع العرب إلى
    صلح مع اليهود.. يجب الاستعداد لمقاومة الاعتداء.. لولا أمريكا ومساعداتها لما استطاعت
    اسرائيل التهديد.. اسرائيل مدينة بوجودها لأمريكا وحلفائها.. اجتماع واشنطن بين أمريكا
    وانكلترا للتدخل في الشرق الأوسط، جرّوا إليه الفرنسيين.. لاأحد له الحق في تقرير مصير
    العرب غيرنا.. إذا أراد الغربيون الذين اجتمعوا في واشنطن توفير السلام هنا فعليهم
    أن يكفوا عن تسليح الصهيونيين. الروس بعيدو نظر لأنهم يرون أن استقلال العرب أضمن لمصلحتهم
    من اسرائيل.. بيان السوفييت أمس واضح وقوي ويجب أن نقوي صلاتنا بهم. محادثاتي مع مولوتوف
    صريحة، لسنا شيوعيين ولانعتبر النظام الشيوعي النظام المثالي لسوريا، لكننا نقبل التعاون
    النزيه. أجوبة مولوتوف صريحة. لايعملون على التدخل في الشؤون الداخلية وفي نظامنا..
    الغربيون يثيرون المخاوف من الشيوعية ويطلبون منا مكافحتها ولايجوز أن ننفذ ذلك".



    حشود،
    مشاريع، أحلاف، مؤامرات، انقلابات، اعتقالات واضطهاد. تدمير القوة البشرية. يُستنفد
    السياسيون والضباط الوطنيون والشباب. لو كانت الحرب التي تبيد هذه الشعوب ممكنة الآن
    لرتبوها. وكل ذلك لأجل موقع جغرافي وآبار نفط! ماأرخص البشر!


    هل
    تعرفين ياليلى أن دالاس، وزير الخارجية الأمريكية، صاحب مكتب سيلفيان آند كرومويل،
    مدير شركة أميريكان اوف كندا، قريب من شركة الفواكه؟ افهمي إذن لماذا أعلن في مؤتمر
    الحزب الجمهوري في آب 1956: حلف بغداد يحمي الموارد البترولية العظيمة التي تتعلق بها
    القوة الصناعية والعسكرية في العالم الحر..
    الحرمة الإقليمية لاسرائيل هدف من أهم أهداف السياسة الخارجية الأمريكية..!


    هل
    مرّت لحظات نظر فيها عمر إلى حياته في أسى؟ هل أحس هو الذي عرف القسوة في سجن تدمر
    بالحزن على الحياة التي تهشّم، فملأه الشجن؟ تدمّر حياة الشباب، لكن هذه الأجيال ترى
    هذه السنوات عمرها الجميل! وسينشد الشعراء السين وسوف، ويقول عمر في ثقة: طابع زمننا
    نهضة آسيا وإفريقية!


    شاركت
    ليلى وعمر وغادة ومديحة وفوزي في مظاهرات التضامن مع الأردن قبل أن يسمح لقيس بالوصول
    إلى دمشق من درعا. نظم عمر وفدا من طلاب الجامعة حمل فواكه وحلويات وزهورا إلى الأردنيين
    الذين وصلوا إلى درعا، والتقى هناك بقيس.


    عندما
    سمح وزير الداخلية لقيس بالوصول إلى دمشق زار عمرا في الجامعة. وهناك رأى ليلى. وفي
    تلك الأيام ألقى قصيدة في بيت عربي في حي الميدان وكانت ليلى من الطلاب الذين حضروا
    ذلك الاحتفال.

    HAMS
    HAMS
    مشرف عام الاقسام الرومانسيه
    مشرف عام الاقسام الرومانسيه


    زقم العضويه : 58
    عدد المساهمات : 720
    نقاظ : 6080
    السٌّمعَة : 6
    تاريخ التسجيل : 08/02/2010
    العمر : 31
    الموقع : مصر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف HAMS الإثنين يوليو 19, 2010 10:08 am

    فى منتهى الروعة يا منى
    الجزائرية
    الجزائرية
    مشرف القسم الرياضى
    مشرف القسم الرياضى


    زقم العضويه : 13
    عدد المساهمات : 1016
    نقاظ : 6551
    السٌّمعَة : 9
    تاريخ التسجيل : 03/01/2010
    العمر : 38
    الموقع : الجزائر

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف الجزائرية الثلاثاء أغسطس 24, 2010 8:47 am

    تعرفي يا همس أنو أكثر شيء عجبني في الرواية
    أنها تصور حقبة من الزمن و هي فترة الوحدة السورية المصرية
    و تقدم الرواية نظرة مختلفة لسبب فشل الوحدة

    بالإظافة إلى ذلك انها تقدم صورة عن الواقع بكل إيجابياتو و سلبياتو

    و حنا كعرب متعودين نعرض فقط الإيجابيات و بعدين نقع في اشكالية ما سبب فشلنا

    فمثلا تعودنا في المسلسلات السورية التاريخية أن يعرض علينا شهامة أهل السورية و الحفاظ على كل ما يتعلق بدين و الشرف و هذا لا شك فيه و لكن يوجد أيضا خروج عن هذا الإطار و هذا ما لا يتم عرضه
    مع أنهم في المسلسلات التي تتعلق بالحياة الحالية يقدمون الواقع كما هو و لذلك هنالك إقبال كبير على مشاهدتها و هذا لوجود مصداقية في طرح المواضيع

    و لكن تعقيبي على الرواية أن الكاتبة تصور الفساد الأخلاقي بشكل يسمحلك حتى تتصور المشاهد المخلة بالأخلاق و في إعتقادي كان على الكاتبة أن تذكرها و حسب و لكن لا تتمعن كثيرا في الحديث عنها

    أما بالنسبة للحب في قدرة غير عادية في إصال المشاعر للقارء هذا على حسب رأي
    و ذلك لأن الكابة تمكنت من التحدث عن كل من الحب العفيف و الحب الماجن و هذين الأحساسين متناقضين و أن تتمكن الكاتبة من إصال المشاعر الخاصة بكليهما فهذا شيء يحسب لها

    و لكن إنتقادي للرواية الأساسي يكمن في جوهر تفكير الكاتبة الخاص بحب الوطن

    و لي كلام أخر في هذه النقطة

    عبدو
    عبدو
    مشرف
    مشرف


    زقم العضويه : 160
    عدد المساهمات : 1381
    نقاظ : 6808
    السٌّمعَة : 75
    تاريخ التسجيل : 11/07/2010
    العمر : 53
    الموقع : الجميع

    m11 رد: دماء وأحلام في بلاد الشام

    مُساهمة من طرف عبدو الثلاثاء أغسطس 24, 2010 2:38 pm

    تصدقي ما قريت شئ خالص خالص
    الا سطر واحد بالاول
    بس استمري يا منى موضوع طويل وجميل
    اكتبي تاني

      الوقت/التاريخ الآن هو الأربعاء مايو 08, 2024 1:36 am